تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي، منذ 8 أيام هجومًا عسكريًّا واسعًا في حي الزيتون جنوب مدينة غزة، تخلله تدمير مئات المنازل والأعيان المدنية، وتهجير قسري جماعي للسكان، في مشهد يعيد إلى الأذهان سياسة الأرض المحروقة المتدرجة وصولا إلى كامل مدينة غزة، تمهيدًا لإحكام السيطرة العسكرية عليها.
وعلى الرغم مما وقع بالحي من دمار واسع خلال 8 هجمات برية واسعة نفذتها قوات الاحتلال خلال الأشهر الماضية، إلى جانب مئات الغارات الجوية والقصف المدفعي، إلاّ أن قوات الاحتلال تسعى هذه المرة إلى محو الحي الذي تبلغ مساحته حوالي 9156 دونما في طريقها لمحو المدينة بالكامل، وتسويتها بالأرض على غرار ما حدث في مناطق أخرى من قطاع غزة.
وفي هذا الصدد، يقول المحامي راجي الصوراني، مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان:
“حي الزيتون من أقدم أحياء مدينة غزة وأكثرها اكتظاظًا بالسكان. لطالما كان هدفًا للهجمات الإسرائيلية، إذ تعرض للقصف والاقتحامات البرية المتكررة منذ بداية الحرب. ما حدث في الحي يكشف عن سياسة إسرائيلية واضحة تقوم على القضم المتدرج والتدمير الشامل، حيًا تلو الآخر، حتى تُخلى مدينة غزة كاملة من سكانها. الوحشية والعنف وعمق التدمير في الزيتون دفعا إلى نزوح جماعي، وسط حالة خوف وذعر غير مسبوقة بين السكان. الخشية الكبرى أن يكون هذا المشهد مقدمة لتركيز سكان القطاع في نطاق جغرافي محدود جنوب القطاع يتعرض للقصف المستمر، تمهيدًا لتهجيرهم القسري خارج الحدود. بهذا يصبح حي الزيتون نموذجًا صارخًا للمرحلة القادمة في خطة الاحتلال لتفريغ غزة من سكانها”.
ووفق متابعة طاقم المركز، فقد بدأت قوات الاحتلال يوم الاثنين الموافق 11/8/2025، هجومًا بريًّا في حي الزيتون، بالتزامن مع هجمات جوية مكثفة على المنازل إلى جانب تفجير روبوتات مفخخة في الأحياء السكنية. وجاء ذلك بعد 5 أيام من إصدارها أوامر إخلاء غير قانونية لسكان الحي1، الذي يعد من أقدم أحياء مدينة غزة، وأكثرها اكتظاظا بالسكان الذين يقدر عددهم بنحو 110 آلاف نسمة، ولم يتوقف خلال هذه الأيام قصف المنازل والشوارع في الحي. وفي 15/8/2025، أعلنت قوات الاحتلال رسميًّا أن قوات الفرقة 99 وقوات لواء الناحال واللواء 7 تحت قيادة الفرقة 99 بالعمل في الأيام الأخيرة في منطقة الزيتون على أطراف مدينة غزة.
وعلى مدار الأيام الماضية، عملت قوات الاحتلال على تعميق هجومها البري في الحي بعد تهجير سكانه، وسكان الأحياء المجاورة له، نتيجة القصف العشوائي ونداءات الإخلاء التي توجهها الطائرات المسيّرة التي تطلقها تلك القوات. كما وصلت آليات الاحتلال حتى شارع (8) وتمركزت في محيط منطقة المصلبة ومسجد علي وصالة النجوم، ونفذت عمليات نسف وهدم واسعة طالت المئات من المنازل والمنشآت والأعيان المدنية بما فيها المدارس التي كانت عرضة للقصف والتدمير، وسط قصف متواصل استهدف الأطراف الغربية والشمالية للحي.
وخلال الهجوم المتواصل، قصفت طائرات الاحتلال العديد من منازل المواطنين على رؤوس قاطنيها الذين لم يتمكنوا من الإخلاء، من بينها منزل عائلة مرتجى ما أدى إلى مقتل مواطن وزوجته، ومنزل عائلة ارحيم الذي أسفر عن مقتل 9 من أفرادها، ومنزل عائلة الحصري الذي أدى إلى مقتل 4 من سكانه. وتمكّن مواطنون وطواقم الدفاع المدني من انتشال ونقل عدد من القتلى والجرحى إلى المستشفى العربي الأهلي المعمداني والمستشفى الكويتي الميداني، فيما لا تزال جثامين أخرى عالقة تحت الأنقاض وعلى شوارع الحي.
ولم تتوقف طوال الأيام الماضية، طائرات الاحتلال عن شن الغارات والقصف المدفعي على مدار الساعة، فيما لا تفارق الطائرات المسيرة سماء المنطقة وتقصف كل شيء يتحرك، بما يدلل أن الهدف تدمير كل شيء واتباع سياسة الأرض المحروقة ولكن ضد المدنيين والأهداف المدنية.
وأفاد المواطن محمد صالح (31 عامًا) من سكان الحي لطاقم المركز: “خرجنا نركض حفاة لم نأخذ شيئًا معنا.. خرجنا بأرواحنا فقط، البيوت تنهار من حولنا والقصف لا يتوقف لحظة. رأيت بعيني الروبوتات المتفجرة تدخل الشوارع وتنفجر.. المشهد كان أشبه بالجحيم.”
أما المواطنة مريم ياسين (70 عامًا) التي نزحت مع أحفادها من الحي فأفادت لطاقم المركز: “لا مكان آمن.. حتى ونحن نركض كان القصف يلاحقنا، كأنهم يريدون قتل كل شيء يتحرك.”
ويضم الحي ومحيطه العديد من المنشآت الحيوية مثل المستشفى الأهلي المعمداني، الذي لا يزال يقدم خدمات صحية ويمكن أن يتسبب تطور العملية في تقدمه، والمعالم الحضارية والدينية، مثل كنيسة القديس بريفيريوس وكنيسة دير اللاتين التي تعرضت عدة مرات للقصف وسقط فيها العديد من الضحايا، ولا تزال تضم مئات النازحين، ودار الأمام الشافعي، والمعالم الأثرية مثل حمام السمرة.
ونتيجة امتداد آثار الهجوم العسكري الإسرائيلي في الحي إلى محيطه، بدأ الآلاف من سكان الأحياء المجاورة بالنزوح قسرا جراء القصف الذي بدأ يصل إليها، وخشية من امتداد الهجوم البري إلى مناطقهم.
ويشير المركز، إلى أن تمركز قوات الاحتلال في الحي وخطورة الوضع في المنطقة، يحول دون تمكن طواقم المركز من التوثيق الشامل والتفصيلي لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تقترفها قوات الاحتلال في المنطقة. ويؤكد أن المعطيات التي ترد بناء على حجم التفجيرات وعمليات النسف وما تحدث به النازحون من المنطقة فإن الحديث يدور عن تدمير مئات المنازل والمباني في إطار عملية محو كاملة للحي على غرار ما حدث سابقا في رفح وخانيونس وشمال غزة.
ما يجري في حي الزيتون يندرج في إطار سياسة ممنهجة تهدف إلى تفريغ مدينة من سكانها عبر تدمير أحيائها واحدًا تلو الآخر، بسياسة القضم المتدرج والتدمير الشامل من حي الزيتون إلى باقي أحياء مدينة غزة، حيث بدأت أيضا بعمليات تدمير في حي الصبرة جنوب المدينة؛ تمهيدًا لإحكام السيطرة على محافظة غزة ومحو مبانيها وتهجير سكانها إلى الجنوب، حيث جاء الهجوم بعد أيام قليلة من الكشف عن الخطة الإسرائيلية، الرامية إلى السيطرة الكاملة على مدينة غزة وتفريغها من سكانها.
وإذ يدين المركز بأشد العبارات استمرار الاحتلال في نهج محو الأحياء والمدن الفلسطينية، فإنه يجدد تحذيره بأن تنفيذ الخطة الإسرائيلية لإحكام السيطرة على غزة وتهجير سكانها ينذر بسقوط آلاف الضحايا، ويحد من فعاليات جهود الاستجابة الإنسانية، ويمهد لمحو شامل لمعالمها الحضارية والأثرية والتاريخية، في استكمال لما نفذته بالفعل في رفح وخان يونس وشمال غزة. بذلك، تُكرس إسرائيل أكبر عملية تغيير قسري للواقع الديمغرافي والثقافي في القطاع، بما يندرج ضمن جريمة الإبادة الجماعية، ومحاولة منهجية لطمس الوجود الفلسطيني ودفع الناجين نحو الرحيل القسري خارج الوطن.
يطالب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان المجتمع الدولي، وخاصة: الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والمفوض السامي لحقوق الإنسان، باتخاذ إجراءات عاجلة وفورية لوقف تنفيذ الخطة الإسرائيلية، ومنع تكرار نكبة جديدة بحق الفلسطينيين، وحماية مدينة غزة، أكبر المدن الفلسطينية، التي تضم مئات المعالم التاريخية والحضارية، وإلزام إسرائيل بوقف الإبادة الجماعية التي ترتكبها ضد سكان قطاع غزة.
كما يحذر شركاء إسرائيل في جريمة الإبادة الجماعية، سواء بدعمهم العسكري والسياسي غير المحدود لدولة الاحتلال أو بصمتهم، وتطالبهم بالوفاء بالتزاماتهم القانونية قبل فوات الأوان، وتطالبهم باتخاذ خطوات عملية لحماية المدنيين الفلسطينيين ومنع استكمال جريمة الإبادة الجماعية المستمرة.