يصادف الثلاثاء 19 آب/ أغسطس 2025، اليوم العالمي للعمل الإنساني، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، تكريماً لجميع العاملين في مجال تقديم المساعدة الإنسانية، وإحياءً لذكرى من قضوا نحبهم أثناء أداء مهامهم الإنسانية في مناطق النزاع، بهدف تذكير الدول بضرورة توفير الحماية للعاملين الإنسانيين وأمنهم حتى يتمكنوا من إنقاذ المدنيين. وبهذه المناسبة يدعو مركز الميزان المجتمع الدولي لحماية العاملين في الشأن الإنساني وضمان حرية عمل المؤسسات الغوثية والإنسانية في قطاع غزة.
تحلّ المناسبة هذا العام؛ في وقت تواصل فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي استهداف العاملين في المجال الإنساني، في سياق جريمة الإبادة الجماعية، بحيث تتعمد قصف أماكن عملهم ومحيطها، ومنازلهم، ومركباتهم، وتعرقل جهودهم في إغاثة وإنقاذ حياة المدنيين في قطاع غزة. ويترافق تقييد العمل الإنساني واستهداف العاملين فيه مع تدهور الأوضاع الإنسانية والمعيشية بشكل غير مسبوق؛ نتيجة الإبادة المتواصلة منذ (22) شهراً، واستمرار عمليات القتل الجماعي بحق السكان المدنيين الفلسطينيين، وتهجيرهم قسراً عن منازلهم ومناطقهم السكنية عشرات المرات، وفرض القيود على دخول المساعدات الإنسانية والإمدادات الضرورية والحيوية، وتدمير الأعيان المدنية والمرافق التي لا غني عنها لحياة السكان، ولاسيما تلك المتعلقة بالصحة العامة والمياه والصرف الصحي، واستهداف المستشفيات والمراكز والنقاط الطبية، وتكايا الطعام الخيرية والمطابخ المجتمعية، وحظر عمل المخابز، ووقف عجلة الانتاج في المجال الصناعي والزراعي، وتكرّس سياسة التجويع والتعطيش ضد سكان القطاع.
إن الفظائع التي ترتكبها قوات الاحتلال أحالت حياة المدنيين إلى جحيم وجعلتهم أحوج من أي وقت مضى إلى الجهود الإنسانية والعمل الإغاثي والتدخلات العاجلة والأنشطة المنقذة للحياة، لاسيما بعد انتشار وتفشي الجوع في صفوف المدنيين، إذ ارتفع عدد الوفيات إلى (263) حالة وفاة من بينهم (112) طفل[1]؛ نتيجة المجاعة وسوء التغذية. ووسط الحاجة الماسة إلى توفير الطعام والشراب والرعاية الصحية الأولية؛ تستهدف قوات الاحتلال الأنشطة الإنسانية، وتعرقل عمليات نقل وإدارة وتنسيق وتوزيع المساعدات الإغاثية بشكل يحترم الكرامة الإنسانية، بعد أن أوقفت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة، وعرقلت عمل برنامج الغذاء العالمي وعشرات المؤسسات غير الحكومية الدولية والمحلية.
ولم تكتفِ قوات الاحتلال باستخدام التجويع كسلاح، بل حولت العمل الغوثي والإنساني إلى سلاح للقتل وتكريس التجويع وهندسة المجاعة واستخدامها لإعادة توزيع الديموغرافيا على جغرافيا قطاع غزة، حيث أنشأت بالتعاون مع الإدارة الأمريكية مؤسسة أطلقوا عليها اسم (مؤسسة غزة الإنسانية) وأقاموا أربع نقاط توزيع تمركزت ثلاث منها شمال مدينة رفح والرابعة كانت جنوب محور (نتساريم). وتجبر تلك المؤسسة المجوّعين وخائري القوى على السير لمسافة تتراوح بين (4-10) كيلوا مترات ليصلوا إلى نقاط توزيع المساعدات جنوب ووسط القطاع، ويبيتون ليلتهم في العراء وتحت تهديد الموت بحيث لا يتوقف إطلاق النار ويتكدس عشرات الآلاف بالقرب من نقطة التوزيع التي تفتح أبوابها لمدة عشرين دقيقة فقط، ما يفضي إلى تدافع وتزاحم، ويستخدم موظفو الشركة غاز الفلفل وإطلاق النار، بالإضافة إلى هجمات قوات الاحتلال نفسها ما تسبب في قتل مئات الجائعين، بحيث تحولت نقاط توزيع المساعدات إلى ساحات للإعدام، إذ قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي (1,965) فلسطيني، وأصابت (14,701) آخرين من المدنيين المُجّوعين حتى تاريخ 18 آب/أغسطس 2025 أثناء انتظارهم شاحنات المساعدات في الشمال، أو توجههم إلى نقاط التوزيع التي تشرف عليها المؤسسة المذكورة.
ومن الجدير بالذكر أن المؤسسة الأمريكية بالإضافة إلى عسكرتها للمساعدات وقيامها بدور وظيفي لتكريس المجاعة والسماح للاحتلال بالادعاء أنه يسمح بمرور المساعدات، فهي تقوض مبادئ العمل الإنساني الأساسية كالنزاهة والحياد والاستقلالية، التي تبنتها الأمم المتحدة من خلال قراري الجمعية العامة 46/182 و58/114. وتقوض أهداف العمل الإنساني المتمثلة في إنقاذ الحياة وحفظ الكرامة الإنسانية المتأصلة. في حين ترفض الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية الدولية والمحلية عمل المؤسسة الأمريكية الإسرائيلية وترفض التعامل معها، وتعتبرها خطراً على حياة المدنيين.
هذا وتستهدف قوات الاحتلال الطواقم والفرق الإنسانية من خلال إطلاق النار المباشر وقصف المقرات، ونجم عن هذه الهجمات عدد كبير من القتلى والجرحى، إذ تشير التقارير الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، إلى ارتفاع أعداد القتلى من العاملين في المجال الإنساني في قطاع غزة، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر2023 وحتى 13 آب/ أغسطس 2025 إلى حوالي (520) عامل/ة، منهم (356) موظفاً في الأمم المتحدة، و(53) من الموظفين والمتطوعين العاملين لدى جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، و(4) من موظفي اللجنة الدولية للصليب الأحمر، و(107) من العاملين الآخرين في منظمات إنسانية[2].
يأتي استهداف العاملين الإنسانيين بالرغم من إعلام سلطات الاحتلال المسبق بمواقع واحداثيات مقراتهم الجغرافية، وحرص الفرق الإنسانية على وضع الشارات التي تدلل على هويتهم وطبيعة مهامهم سواء ما يظهر على لباسهم أم مركباتهم أم مقراتهم، وبالرغم من إبلاغ سلطات الاحتلال بخط سيرهم وأماكن عملهم يتعرضون للهجمات، الأمر الذي ضاعف من أعداد الضحايا في صفوفهم.
وفي سياق متصل، تصعد قوات الاحتلال من حملاتها الرامية لتقويض العمل الإنساني، من خلال استهداف أكبر المؤسسات الغوثية، حيث تعرقل جهود الإغاثة التي تضطلع بها وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، في قطاع غزة الذي يقطن فيه أكثر من مليوني إنسان ويشكل اللاجئون منهم ما نسبته (73%)[3]. حيث يتعرض النازحون والمهجرون قسرياً في مقرات الأمم المتحدة ومقدمي الخدمات الإنسانية للاستهداف والقتل.
وتشير الأرقام الصادرة عن كالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بأنه منذ بداية الحرب على قطاع غزة وحتى تاريخ (12 آب/أغسطس 2025)، قتل (360) من فريقها، فيما تم الإبلاغ عن (895) حادثة أثرت على مبانيها ومرافقها والأشخاص الموجودين بداخلها، وقد تأثرت (311) منشأة (للأونروا) بحوادث مرتبطة بالنزاع المسلح، حيث تأثرت المنشآت أكثر من مرة، وقتل نتيجة هذه الحوادث (845) شخصاً، وأصيب (2,554) آخرين على الأقل من الأشخاص الذين لجأوا إلى منشآت الأونروا[4].
مركز الميزان لحقوق الإنسان، إذ يؤكد على الحاجة الماسة لغوث الفلسطينيين في قطاع غزة وتقديم المساعدات الغذائية والدوائية وضمان تزويد المستشفيات والبلديات وغيرها من المؤسسات الحيوية بحاجاتها الضرورية من الوقود والمعدات، فإنه يشدد على إلحاحية إتاحة ظروف عمل آمنة لفرق الإغاثة وحمايتهم وحماية مؤسساتهم لتمكينهم من التصدي للتدهور الخطير والمتسارع في الأوضاع الإنسانية، ولاسيما تفشي الجوع في أوساط المدنيين، وخاصة الأطفال، والنساء الحوامل والمرضعات، والمرضى، وكبار السن، والأشخاص ذوي الإعاقة، وضمان استمرار الاستجابات الإنسانية في ظل هذه الظروف المعقدة والمحفوفة بالمخاطر والصعوبات.
مركز الميزان لحقوق الإنسان إذ يكرر استنكاره الشديد لاستمرار الفظائع والأهوال التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي على مدى (682) يوماً، بما في ذلك استهداف العاملين الإنسانيين، فإنه يطالب المجتمع الدولي بالتدخل العاجل والفاعل لوقف جريمة الإبادة الجماعية، وضمان تدفق إرساليات الدواء والغذاء من خلال المعابر، دون أي عوائق، وحماية العاملين في المجال الإنساني، وضمان احترامهم واحترام أنشطتهم الإنسانية، وحماية المؤسسات الإنسانية وفي مقدمتها وكالة الغوث الدولية، والتحقيق في جميع الجرائم التي استهدفت العاملين الإنسانيين ومقراتهم، وملاحقة ومسائلة كل من يثبت تورطهم في هذه الجرائم.
كما يدعو المركز المؤسسات الدولية مواصلة الحفاظ على المبادئ الإنسانية، وعدم القبول بوجود مؤسسة هي جزء من إعادة إنتاج التجويع والمعاناة وتضع سوابق خطيرة في العمل الإنساني.
[1] وزارة الصحة الفلسطينية بغزة، بيان صحافي، 18/8/2025.
[2]مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)،13/08/2025 https://www.ochaopt.org/content/reported-impact-snapshot-gaza-strip-13-august-2025?utm_source=chatgpt.com
[3] وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى. الرابط: https://2u.pw/6boqR
[4] انظر. تقرير الأونروا رقم (184) حول الأزمة الإنسانية في قطاع غزة والضفة الغربية، التي تشمل القدس الشرقية، (15/8/2025): https://www.unrwa.org/resources/reports/unrwa-situation-report-184-situation-gaza-strip-and-west-bank-including-east-jerusalem?utm_source=chatgpt.co