في مخيم صغير للنازحين وسط حي الصحابة، يعيش عماد الفيري (أبو بلال)، الستيني الذي فقد قدمه اليمنى في عدوان 2014، قصة نزيف إنساني لم يتوقف منذ 7 أكتوبر 2023، بل تعمّق واشتد، حتى بات يختزل سنوات الحرب في جسده ومعاناته اليومية.
منذ الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، هُدم منزل عماد في بيت لاهيا شمال القطاع، فوق الطرف الصناعي الذي كان يضعه بعناية قرب سريره، لم يتمكن من إنقاذه، خرج هاربًا بلا طرف، بلا عكازات، بلا أدوات تعينه على الحركة، تاركًا خلفه ذكريات بيته ووسيلته الوحيدة لمواجهة الحياة.
يقول عماد: "منذ أن فقدت قدمي، كنت أظن أنني عرفت أقصى درجات الألم، لكنني اكتشفت أن هناك ما هو أشد... أن تفقد القدرة على الحركة، على النجاة، على الحصول على طعام، فقط لأنك فاقد لطرفك ولا تجد من يعينك".
نزح أكثر من 10 مرات، في كل مرة يعاني الجوع والخوف والعجز الكامل، لم يستطع النزوح إلى الجنوب، فالمسافة لا تطاق دون وسائل مساعدة، ولا توجد مواصلات.
يعيش اليوم في خيمة لا تقي حر الصيف ولا قسوة العجز، ويقف أكثر من ساعتين على عكاز مهترئ – إن وُجد فقط للحصول على صحن عدس يسد به رمق زوجته وأطفاله.
"أنا لا أطلب شيئًا كثيرًا. فقط أريد أن أعيش بكرامة، أُعامَل بإنسانية، أُمنح حقي في الدعم والرعاية، كما أي إنسان آخر"، يقولها عماد بعينين غارقتين في الإحباط، لكنهما لا تزالان متمسكتين بالأمل.
أما في حي الصبرة وسط مدينة غزة، يروي خالد النجار (30 عامًا) مأساة لا تقل قسوة، لكنها تحمل تفاصيل مختلفة، كان خالد يعمل "دهّانًا"، وكانت قدمه اليسرى تمثل مصدر رزقه الأساسي.
ولكن في 22 يناير 2024، أصيب إصابة بالغة أدت إلى تهتك العظم بشكل كامل، بسبب القصف، وضعف الإمكانيات الطبية.
يقول خالد: "قدمي كانت كل حياتي، وكل رزقي، وكل مستقبلي، لكنها لم تعد موجودة". تنقّل بين مستشفيات ناصر والنجار والإماراتي في جنوب القطاع، وجميعها أخبرته: "علاجك ليس في غزة... إن كنت محظوظًا فستجد علاجًا في ألمانيا".
لكن لم يأتِ الحظ، وبعد 3 أشهر من الألم والصراع، اضطر الأطباء إلى بتر قدمه من فوق المفصل خوفًا من الغرغرينا والموت.
اليوم يعيش خالد أعزبًا في منزل عائلته، بلا دخل، بلا طرف صناعي، ولا حتى عكاز خاص به، يقضي مشاويره بعد أن يستعير عكازًا من أحد جيرانه، "حتى التنقل أصبح حلمًا"، يقول خالد، ويضيف: "أحيانًا أضطر للزحف أو التوسل للناس حتى أعود بكيس طحين أو طعام بسيط لعائلتي".
يشتهي خالد مسكنًا واحدًا يخفف آلامه المزمنة التي لا تفارقه على مدار الساعة، ويقول بصوت متهدّج: "لا أريد شيئًا سوى أن يختفي هذا الألم، أن أضع قدمًا صناعية، أن أعود لعملي... أن أحصل على راتب شهري يشعرني أنني إنسان مثلكم".
يحلم خالد بالعدالة، بالحياة، بأن يعود واقفًا إلى الحائط الذي كان يدهنه يومًا ما، لا متكئًا على العجز ومرارة الإهمال.
في السياق ذاته، قال المختص في شؤن الإعاقة بالإغاثة الطبية مصطفى عابد:" إن الأشخاص ذوي البتر في قطاع غزة يواجهون واقعًا كارثيًا ومعاناة مركبة منذ بداية الحرب الإسرائيلية في السابع من أكتوبر 2023"، موضحًا أن هذه الفئة أصبحت من أكثر الفئات تهميشًا وحرمانًا من حقوقها الأساسية، سواء في الخيام أو مراكز الإيواء.
وأوضح أن مراكز الإيواء الحالية غير مجهزة إطلاقًا لاستقبال حالات مبتوري الأطراف، حيث يعيشون في بيئة رملية غير مهيأة، تفتقر للممرات الآمنة والمراحيض المناسبة والأسِرّة المخصصة لحالتهم، ما يزيد من صعوبة الحركة ويضاعف الألم الجسدي والنفسي لديهم.
وأكد عابد أن الإحصائيات تشير إلى أن عدد حالات البتر في قطاع غزة منذ عام 1987 وحتى العام الجاري بلغ نحو 6500 حالة، بينما خلفت الحرب الأخيرة فقط ما بين 4000 إلى 4500 حالة بتر جديدة، لتبلغ نسبة حالات البتر 30% من إجمالي الإصابات الحركية الشديدة.
وأضاف أن هذه النسبة غير مسبوقة وتعكس حجم الجرائم الناتجة عن القصف المباشر للأطراف، والتأخير في تقديم الرعاية الطبية، والنقص الحاد في الإمكانيات الجراحية والتأهيلية.
وأشار عابد إلى أن آلاف المصابين لم يتلقوا أطرافًا صناعية حتى الآن، وأن العديد ممن سبق وأجريت لهم عمليات بتر يعيشون اليوم بأطراف صناعية غير صالحة، أو مكسورة، أو غير مناسبة تمامًا، بسبب تعطل المراكز، وانقطاع الدعم، ونقص المواد الخام والكادر المؤهل.
ونبه إلى أن المنظومة التأهيلية في غزة شبه منهارة، وأن خدمات العلاج الطبيعي والعلاج الوظيفي والدعم النفسي متوقفة أو شبه معدومة، موضحًا أن مراكز التأهيل باتت غير قادرة على الاستمرار نتيجة تدمير منشآتها، وتوجيه التمويل نحو الاحتياجات الإنسانية العاجلة فقط.
وأردف:" إن هناك نقصًا كبيرًا في الكراسي المتحركة، والعكاكيز، والمستلزمات الطبية الأساسية مثل الشاش والمعقمات والأدوية الموضعية، مما أدى إلى إصابة العديد من الحالات بمضاعفات صحية خطيرة، مثل الالتهابات والتقرحات، وبعضها اضطر إلى الخضوع لبتر إضافي نتيجة غياب التدخل الطبي العاجل".
وأكد عابد أن أغلب مبتوري الأطراف باتوا يعتمدون كليًا على أفراد أسرهم لقضاء احتياجاتهم اليومية، في ظل انعدام الرعاية التمريضية، مما زاد من شعورهم بالعجز والضغط النفسي، لافتاً إلى أن الحرب تركت أثرًا نفسيًا بالغًا على هذه الفئة، تمثل في الصدمة، الاكتئاب، العزلة، فقدان الأمل، والعنف الداخلي، مؤكدًا أن غياب الكوادر النفسية يزيد من تعقيد حالتهم.
وبيّن أن المؤسسات العاملة في قطاع التأهيل تقدم خدمات محدودة وضعيفة، وأن الأطراف الصناعية التي توفرها بعض الجهات كمركز الأطراف الصناعية ومستشفى حمد للتأهيل لا تفي بالطلب الكبير، مشيرًا إلى أن عملية التصنيع بطيئة بسبب نقص المواد الخام وتعطل خطوط الإنتاج، والنزوح المتكرر للعاملين في مؤسسات التأهيل.
وشدد عابد على أن الاحتلال الإسرائيلي يتحمل المسؤولية الكاملة عن هذا الواقع الكارثي، نتيجة استهداف المدنيين بشكل مباشر، وتدمير المنشآت الطبية، ومنع إدخال المستلزمات والأجهزة التأهيلية والأدوية، مؤكدًا أن هذه السياسة المتعمدة تمثل شكلاً من أشكال العقاب الجماعي وتفاقم من واقع الإعاقة في غزة.
وختم حديثه بالتأكيد على أن مبتوري غزة لا يحتاجون فقط إلى أطراف صناعية، بل إلى تأهيل شامل، دعم نفسي، بيئة إنسانية آمنة، وخطة وطنية ودولية لإعادة دمجهم في المجتمع، مضيفًا: "هؤلاء لا يفتقدون أطرافهم فقط، بل يُحرمون من كرامتهم، وحقهم في الحياة كبشر كاملين."