تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي حصارها البحري المشدد لقطاع غزة، وتستمر في حرمان الصيادين من الدخول إلى البحر ومزاولة أي نشاط بشكل كامل، تحت طائلة الاستهداف المباشر وبذرائع أمنية واهية وغير قانونية منذ اليوم الأول للهجوم العسكري على قطاع غزة. ويندرج ذلك ضمن سلسلة الإجراءات الاسرائيلية الممنهجة الهادفة إلى التضييق على الفلسطينيين وتجويعهم، واستهداف آخر ما تبقى من مصادر الغذاء للسكان المحاصرين في القطاع. ويؤكد ذلك تمادي الاحتلال في فرض سياسة العقاب الجماعي والإمعان في مواصلة جريمة الإبادة الجماعية ضد أكثر من مليوني فلسطيني يعانون من التجويع المميت والاستهداف الممنهج لما تبقى من مقومات البقاء منذ أكثر من 22 شهرًا.
وقد أصدرت قوات الاحتلال تحذيرًا جديداً يوم السبت الموافق 12 يوليو 2025، قالت فيه أنها بدأت بفرض قيود أمنية صارمة في المنطقة البحرية المحاذية للقطاع، وحظرت على الجميع الدخول إلى البحر، وأن قوات الاحتلال ستتعامل مع أي انتهاك لتلك القيود.1 ويؤكد المركز أن قيود المنع وحظر الوصول إلى البحر كانت موجودة بالفعل منذ اليوم الأول للعدوان، وليست جديدة.
وقد رصد المركز مؤخرًا قيام قوات الاحتلال البحرية بملاحقة الصيادين أثناء محاولتهم صيد الأسماك على بعد أمتار قليلة من شاطئ البحر، للحصول على ما يسد رمق جوعهم من الغذاء في ظل تفاقم الكارثة الانسانية المستمرة، حيث اعتقلت قوات الاحتلال أكثر من 20 صيادًا منذ إعلان إغلاق البحر مؤخرًا، وقامت باقتيادهم إلى جهات غير معلومة، وتعرض صيادون آخرون للاستهداف بمهاجمة زوارق الاحتلال لقواربهم في عدة مناطق، وإطلاق النار مباشرة عليها مما أدى إلى وقوع إصابات في صفوف الصيادين واتلاف معداتهم.
ووفقًا لمتابعة المركز الميدانية، فإن قطاع الصيد البحري في قطاع غزة كان منذ بداية العدوان، عرضة لحملة تدمير ممنهجة، حيث تعرض الصيادون للقتل والملاحقة والاعتقال، وتم تدمير معظم قواربهم ومعداتهم. وعلى مدار أيام العدوان لحقت أضرارًا كبيرة بالبنية التحتية البحرية الممتدة على طول الساحل، والتي تشمل ميناء غزة الرئيسي، والمرافئ الصغيرة، وغرف الصيادين ومرافق الصيد الحيوية، وكانت النتيجة المباشرة لذلك هي القضاء على أكثر من 85% من أصول قطاع الصيد البحري في غزة. وانعكست هذه الانتهاكات بشكل كارثي على آلاف العائلات التي تعتمد على مهنة الصيد كمصدر وحيد للعيش، حيث فقد معظم الصيادين البالغ عددهم أكثر من 5000 صياد مصادر دخلهم دون توفر بدائل أخرى يستندون عليها في توفير احتياجاتهم.2
وقد استخدم الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية هجومه العسكري على قطاع غزة سياسة تجويع قسرية كأداة لإخضاع السكان، مستهدفًا كافة مصادر الغذاء، من بينها القطاع الزراعي، ومرافق الإنتاج الغذائي، مصادر المياه، وحظر دخول المساعدات والبضائع التجارية إلى قطاع غزة، والآن يمتد هذا الاستهداف ليطال البحر وما يحتويه من ثروة سمكية، وفي هذا السياق بات من المؤكد أن إغلاق البحر يعبر عن نية إجرامية مبيتة للقضاء على أي قدرة للسكان على البقاء ضمن سياسة التجويع المميت والحصار الشامل الذين يفرضهما الاحتلال، خاصة في ظل تصاعد مستويات الجوع وسوء التغذية الحاد في القطاع.
وبحسب أحدث بيانات التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، فقد بات الغزيين يعيشون أسوأ سيناريوهات المجاعة حاليًا، لا سيما مع انخفاض إمكانية الحصول على الغذاء إلى مستويات غير مسبوقة، وقد انعكس ذلك بشكل خطير على الظروف الصحية للأطفال دون سن الخامسة في غزة، حيث يوجد أكثر من 320 طفل معظمهم دون الخامسة، معرضون لخطر الموت الحقيقي بسبب سوء التغذية، فيما يعاني الآلاف منهم أعراضًا متقدمة من الجوع وسوء التغذية الحاد.3 وقد بلغت معدلات الوفيات بسبب الجوع وسوء التغذية لدى الأطفال والرضّع وحتى البالغين مستويات مرتفعة خلال الأسابيع الأخيرة، حيث سجلت مستشفيات القطاع وفاة 162، منهم 92 طفلًا، في ظل ارتفاع حالة سوء التغذية، وانهيار النظام الصحي بشكل كامل بفعل الاستهداف الممنهج للمستشفيات والمراكز الصحية، واستمرار منع دخول الإمدادات الطبية.4
يرى المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن استمرار الاحتلال في إغلاق البحر وتحويله إلى منطقة عسكرية محظورة تشكل جريمة جديدة تضاف إلى سجل الاحتلال الحافل بانتهاكات القانون الدولي وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية التي ارتكبتها اسرائيل منذ بدء حربها في غزة. كما يعدُّ حرمان السكان من الوصول إلى البحر وممارسة أنشطتهم الاقتصادية البحرية شكلًا من أشكال التجويع المتعمد، والذي بات أحد أعمدة الإبادة الجماعية الجارية بحق سكان قطاع غزة، في انتهاك فاضح لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، التي تحظر على القوة القائمة بالاحتلال اتخاذ أي إجراءات من شأنها أن تمثل سياسة عقاب جماعي ضد المدنيين، بما في ذلك فرض الحصار المشدد أو حرمان السكان من وسائل العيش. كما يؤكد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المادة 11 على كفالة حق الإنسان في العمل وكسب الرزق بوسائل مشروعة، والحق في مستوى معيشي كافٍ يشمل الغذاء والمسكن والصحة.
يحذِّر المركز من أن الاحتلال الإسرائيلي، عبر هذه الإجراءات، يسعى لإحكام حلقة التجويع المميت وتدمير البيئة المعيشية في قطاع غزة بشكل متعمّد، تمهيدًا لتهجير السكان قسرًا واستئصال وجودهم، وهو ما يتسق مع ما ورد في المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، والتي تجرّم إخضاع جماعة ما لظروف معيشية يقصد بها تدميرها كليًا أو جزئيًا. كما يتقاطع هذا الانتهاك مع مذكرات الاعتقال التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية بحق كبار مسؤولي حكومة الاحتلال، والمتعلقة بارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، حيث يشكل إضافة خطيرة لهذه الجرائم، مما يحمّل المجتمع الدولي مسؤولية إضافية في التحرك الفوري لتفعيل هذه المذكرات وتقديم الجناة للعدالة الدولية.
إن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، إذ يدين بأشد العبارات مواصلة الاحتلال الاسرائيلي حرمان الفلسطينيين من الوصول إلى البحر، فإنه يحذر من التبعات الكارثية لهذه السياسة على الأمن الغذائي والصحي لأكثر من مليوني فلسطيني باتوا يعيشون حالة مجاعة شاملة، في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية التي يشهدها التاريخ الحديث من صنع البشر.
وعليه، فإن المركز يطالب المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة وهيئاتها والدول الأطراف المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة، بالتدخل الفوري والعاجل لوقف كافة أشكال العدوان الإسرائيلي، بما في ذلك جرائم الإبادة والتجويع المميت، والعمل بشكل سريع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل تكريس هذا الواقع الكارثي إلى غير رجعة، عبر فرض الحماية الدولية الفورية للسكان المدنيين في قطاع غزة.
ويجدد المركز التأكيد على الحاجة الملحة لرفع الحصار البحري والبري المفروض على القطاع، وفتح كافة المعابر والممرات البرية وضمان استمرار عملها بشكل منتظم، وتسهيل تدفق المساعدات الإنسانية الغذائية وغير الغذائية بكميات كافية وبصورة دورية، وإنهاء العمل بالآلية المهينة والإجرامية لتوزيع المساعدات التي فرضها الاحتلال عبر “مؤسسة غزة الإنسانية”، التي تشكل خطرًا مباشرًا على حياة السكان حيث تحولت مراكزها إلى منصات لإعدام المجوعين والباحثين عن الغذاء وإذلالهم والحط من كرامتهم.
كما يشدد المركز على ضرورة تمكين وكالات الأمم المتحدة وفي مقدمتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) والمنظمات الإنسانية الدولية من أداء مهامها بحرية تامة ودون قيود، وبما يضمن تقديم استجابة فعالة وكافية للكارثة المتفاقمة في القطاع، ويكفل كرامة السكان وسلامتهم، وحقهم في الحياة.
إن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان يُجدّد التزامه الكامل بتوثيق جرائم الاحتلال وفضحها أمام المجتمع الدولي، ويؤكد أن صمت العالم عن هذه الجرائم لا يعني سوى التواطؤ في استمرار الابادة الجماعية التي تنفذ بحق السكان في قطاع غزة، الذين باتوا يصارعون من أجل البقاء على قيد الحياة.
- أنظر: www.facebook.com/share/p/1AyLLvY9kZ/ ↩︎
- أنظر: المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، “لن نترك لهم شيئًا: التدمير الإسرائيلي الممنهج للقطاع الزراعي ونظم إنتاج الغذاء في غزة”، رابط. ↩︎
- أنظر: يونيسف، “وكالات الأمم المتحدة تُحذِّر من أن المؤشرات الأساسية للغذاء والتغذية تتجاوز عتبات المجاعة في غزة”، رابط ↩︎
- وزارة الصحة الفلسطينية ↩︎