يحذر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان من تصاعد الكارثة الغذائية في قطاع غزة، في ظل استمرار سياسة التجويع الممنهجة التي تنفذها قوات الاحتلال الإسرائيلي تحت غطاء الادعاءات المتكررة بشأن فتح ممرات آمنة وإعلان هدن إنسانية موهومة، دون أن يترتب على ذلك أي أثر ميداني ملموس. وبينما يُسمع صدى التصريحات في الإعلام الدولي، فإن الواقع اليومي في القطاع لا يشهد إلا تزايدًا في أعداد الجوعى والوفيات، دون أن يرى السكان طحينًا أو غذاءً أو دواءً يصل إليهم بكرامة أو أمان. ويؤكد المركز أن ما تم إدخاله خلال 72 ساعة الماضية لا يتجاوز 270 شاحنة مساعدات غذائية، بحسب بيانات رسمية1، وهو ما لا يُعادل حتى نصف ما يحتاجه القطاع في يوم واحد، إذ تُقدّر الحاجة اليومية الفعلية بأكثر من 600 شاحنة لتغطية المتطلبات الغذائية والإنسانية الأساسية ووقف تفشي المجاعة. وعليه، فإن سياسة التجويع ما زالت قائمة، بل تتعمق، في ظل غياب أي ممرات إنسانية حقيقية أو آليات توزيع آمنة ومنصفة.
كما يشير المركز، استنادًا إلى مشاهدات ميدانية موثقة، أن قوات الاحتلال لم تخصص أي مسارات آمنة لتوزيع المساعدات، بل قامت يوم الاثنين الموافق 28 يوليو 2025 بارتكاب جريمة مروعة تمثلت في استهداف عناصر تأمين مدنيين شكلتهم العائلات والعشائر الفلسطينية لحماية عمليات توزيع المساعدات في شمال قطاع غزة، ما أسفر عن استشهاد 11 منهم. ويُعد هذا الهجوم جزءً من سياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى تفكيك أي قدرة مجتمعية على تنظيم الإغاثة، وترسيخ الفوضى كأداة لإدامة الجوع والتحكم بالأوضاع الإنسانية للسكان.
يرى المركز أن كل ما يحدث على الأرض من إجراءات لا يرتقي إلى مستوى الاستجابة الإنسانية المطلوبة، بل إنه يستخدم لصناعة صورة مضللة، تُخفي واقعًا من القتل الجماعي البطيء عبر التجويع. ويؤكد المركز أن استمرار حرمان السكان من الغذاء، ومنع إدخال حليب الأطفال والمكملات الغذائية، والاعتداء على آليات التوزيع المجتمعي، تمثل كلها أفعالًا تُصنَّف كجرائم بموجب القانون الدولي الإنساني.
ويعيد المركز التأكيد على أن الفئات الأكثر هشاشة، وفي مقدمتها المرضى والأمهات والأطفال الرضّع، ما زالت عرضة للهلاك الفوري بسبب المجاعة وسوء التغذية، حيث سجّلت مستشفيات القطاع خلال الساعات الـ 48 الماضية نحو 21 حالة وفاة جديدة نتيجة سوء التغذية، ليصل العدد الإجمالي للوفيات الناتجة عن المجاعة وسوء التغذية إلى 154 وفاة، من بينهم 89 طفلًا.2 لذا فإن المركز بعبر عن قلقه البالغ من تزايد أعداد ضحايا سياسة التجويع الإسرائيلية ما يعني تحققًا صريحًا للمعايير الثلاثة المعتمدة بحسب التصنيف العالمي للجوع IPC دوليًا لإعلان “المجاعة”: ارتفاع معدلات الوفيات، انتشار سوء التغذية الحاد، وانعدام الوصول إلى الغذاء. وهو ما حذر منه المركز خلال شهر يوليو 2025.
وقد عبر المركز عن قلقه الشديد من عودة استخدام عمليات الانزال الجوي للمساعدات، حيث جرى تنفيذ قرابة الخمسة عشرة عملية إنزال منها خلال الأيام الماضية، لم تتجاوز حمولتها الإجمالية ما يوازي حمولة 3 شاحنات، حتى أن معظمها سقطت في مناطق خطيرة يتواجد فيها جيش الاحتلال، ما يؤكد أن هذا النمط من الإغاثة لا يوفر الحد الأدنى من الحماية للمدنيين، ويحوّل النجدة إلى أداة إذلال ومخاطرة.
بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، لا سيما المادة 55 منها، تتحمل القوة القائمة بالاحتلال مسؤولية مباشرة عن توفير الإمدادات الغذائية والطبية للسكان المدنيين. كما يعتبر وصول سياسة التجويع الإسرائيلية القائمة في قطاع غزة إلى مراحل متقدمة من الانهيار البنيوي الشامل في مقومات الحياة، نموذجًا مكتملاً لجريمة الإبادة الجماعية باستخدام التجويع كأداة قتل بطيء، وفقًا لما نصّت عليه اتفاقية منع ارتكاب إبادة جماعية. فقد شهد الشهر الأخير تدهورًا كارثيًا في المؤشرات الصحية والغذائية، مع حرمان نحو مليوني فلسطيني من مصادرهم الغذائية المباشرة، فيما بات أكثر من 470 ألف شخص في حالة “انعدام غذائي كارثي للمرحلة الخامسة بحسب تصنيف IPC، 3 وهي لحالة جوع لا يُعزى إلى ظروف طبيعية أو طارئة، بل إلى سياسة ممنهجة استخدمت فيها دول الاحتلال الإسرائيلي الغذاء والماء كسلاح حرب.
لذلك يؤكد المركز أن استمرار صمت المجتمع الدولي وتغاضيه عن مساءلة دولة الاحتلال على جرائمها يشكل تهديدًا مباشرًا لما تبقى من منظومة القيم والشرعية الدولية، مشدداً بأن قطاع غزة لا يحتاج إلى استعراضات لإسقاط المساعدات المحدودة من الجو، أو صور شاحنات المحتشدة خارج القطاع، والسماح بعبور عدد محود منها، بل يحتاج إلى وقف العدوان فورًا، يشمل التوقف الشامل للجريمة الحصار والتجويع من خلال زيادة تدفق المعونات الإنسانية والبضائع التجارية دون قيد أو شرط، وضمان حق الفلسطينيين في الحياة والكرامة.
وفي ضوء هذه الوقائع المتسارعة، يؤكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن المجاعة لم تعُد خطرًا محتملًا، بل واقعًا يوميًا تتصاعد وتيرته، ويدعو إلى تدخل فوري وحقيقي، لا يكتفي بإدانات لفظية أو مبادرات شكلية، لذا يطالب المركز الأمم المتحدة وهيئاتها المعنية بإجراء تقييم شامل للوضع الغذائي، والإعلان رسميًا عن النتائج وما يترتب عليها من واجبات ملزمة لكل دول العالم بالتدخل الفوري لوقف سياسة التجويع الإسرائيلية. كما يدعو المحكمة الجنائية الدولية إلى فتح تحقيق فوري في جريمة التجويع الجارية، في سياق أوسع لجرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية، التي تُرتكب بحق سكان القطاع منذ أكثر من 22 شهرًا.
ومجددًا يُشدد المركز على أن الاتحاد الأوروبي، الذي أعلن مؤخرًا عن تفاهمات إنسانية مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، مُطالب بتقديم توضيح رسمي بشأن هذه التفاهمات، والتي لم تُترجم حتى اللحظة إلى أي تحسن ملموس على الأرض. ويرى المركز أن استخدام تلك التفاهمات كمظلة دبلوماسية للتغطية على استمرار الجرائم يُعدّ تواطؤًا فعليًا، ويحمّل المركز دول الاتحاد الأوروبي المسؤولية القانونية والأخلاقية في حال استمر هذا الوضع، ويدعوها إلى ضرورة إجراء مراقبة ميدانية فعلية وشاملة لتطبيق الاتفاقات المعلنة. وفي هذا السياق، يُذكّر المركز بأن القضاء التام على الفقر والجوع بجميع أشكالهما أهم أهداف التنمية المستدامة لعام 2030، لذا فإن استمرار حرمان الفلسطينيين في قطاع غزة من الغذاء والماء والرعاية الصحية لا يشكل فقط انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، بل يُقوّض أحد أسمى التعهدات الأممية التي التزمت بها دول العالم بعدم ترك أحد خلف الركب.
- المكتب الإعلامي الحكومي، بيان صحفي رقم (910) –(913) ↩︎
- وزارة الصحة، تصريحان صحافيان منفصلان، 28-29 يوليو2025، رابط إلكتروني ↩︎
- تقرير خطر المجاعة في جميع مناطق قطاع غزة، 12 مايو 2025، رابط إلكتروني ↩︎