الإعلام المجتمعي يعزّز ثقافة الحلول البديلة للنزاعات في غزة في ظل تعطل منظومة العدالة

في ظل تعطل المحاكم وتراجع فاعلية منظومة العدالة الرسمية في قطاع غزة نتيجة الحرب المستمرة، برز مركز التنمية والإعلام المجتمعي (CDMC) كفاعل محوري في تعزيز ثقافة الحلول البديلة للنزاعات، مستندًا إلى الإعلام المجتمعي كأداة للتوعية، وبناء السلم الأهلي، والحد من تفاقم الخلافات داخل المجتمع الفلسطيني، لا سيما في أوقات الأزمات.

وتأتي هذه الجهود في سياق تصاعد النزاعات المجتمعية الناجمة عن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي خلّفتها حرب 2023 وما تلاها، حيث بات اللجوء إلى المسارات القضائية التقليدية شبه متعذّر. وفي هذا الإطار، عمل المركز على تبنّي مقاربات مجتمعية غير تقليدية، تقوم على نشر الوعي القانوني، وتبسيط مفاهيم العدالة، وفتح مساحات آمنة للحوار البنّاء، بما يوفّر بدائل عملية وفعّالة لحل الخلافات.

ونفّذ مركز التنمية والإعلام المجتمعي تدخلاته الميدانية ضمن عدد من المشاريع المجتمعية، أبرزها مشروع “حشد الجهود المجتمعية”، ومشروع “نشر العدالة”، ومشروع “أصوات من أجل العدالة”، والتي شكّلت إطارًا عمليًا لتعزيز ثقافة الحلول البديلة للنزاعات في مختلف محافظات قطاع غزة.

وجرى تنفيذ هذه التدخلات خلال فترة الحرب وما بعدها، واستمرّت بشكل مكثّف خلال عام 2025، في ظل أوضاع إنسانية ومجتمعية بالغة التعقيد، شملت النزوح الواسع، وتفكك البنية الاجتماعية، وتعطّل المؤسسات الرسمية. وركّزت الأنشطة على تنظيم جلسات توعية وورش تدريبية تناولت مفاهيم الوساطة، والتحكيم، والتوفيق، والصلح المجتمعي، وآليات إدارة النزاعات بالطرق السلمية، مستهدفة فئات متنوعة، من بينها النساء، والشباب، والأشخاص ذوو الإعاقة، والناشطون المجتمعيون، والعاملون في المؤسسات القاعدية.

واعتمدت هذه التدخلات على منهجية تشاركية، دمجت بين الشرح النظري والتطبيق العملي، من خلال دراسات حالة واقعية، ونقاشات مفتوحة، وتمارين محاكاة، إلى جانب توظيف أدوات إعلامية مبسّطة، كالقصص الإنسانية والمحتوى الرقمي، لتحويل المعرفة القانونية إلى رسائل توعوية قابلة للتداول والوصول إلى أوسع شريحة ممكنة من المجتمع.

وساهم الإعلام المجتمعي، الذي يوظّفه المركز منذ سنوات، في تسليط الضوء على قصص نجاح لحل نزاعات بطرق بديلة، ما عزّز ثقة المجتمع بهذه الآليات، ووفّر منصّة لرفع صوت الفئات المهمّشة، لا سيما النساء والشباب، وإبراز دورهم كفاعلين أساسيين في صناعة الحلول داخل أسرهم وأحيائهم ومراكز النزوح.

كما لعب المركز دورًا في ربط الجهود المجتمعية المحلية ببعضها البعض، وتعزيز التنسيق بين المبادرات القاعدية في محافظات غزة المختلفة، بما يدعم نهج الوقاية من النزاعات قبل تفاقمها، ويحدّ من انعكاساتها الاجتماعية في ظل غياب القضاء الرسمي.

وأظهرت مخرجات الورش تحسّنًا ملحوظًا في فهم المشاركين لبدائل حل النزاعات، وقدرتهم على إدارة الخلافات بطرق سلمية. وأفاد عدد منهم بأن هذه المعارف مكّنتهم من أداء أدوار وساطة داخل أسرهم ومحيطهم الاجتماعي، وأسهمت في تخفيف حدّة التوتر وتعزيز التماسك المجتمعي.

وتجلّت نتائج هذه الجهود في أرقام تعكس اتساع نطاق التدخلات، حيث شارك 584 شخصًا ضمن مشروع “أصوات من أجل العدالة”، من خلال تنفيذ 20 ورشة بدعم من مؤسسة هاينرش بل الألمانية، ركّزت على تعزيز العدالة والمساءلة وتمكين الأفراد من حل النزاعات سلميًا.

استفاد 1916 مشاركًا ضمن مشروع “حشد الجهود المجتمعية”، عبر تنفيذ 45 ورشة بدعم من هيئة الأمم المتحدة للمرأة، ركّزت على بدائل حل النزاعات وتعزيز دور النساء في إدارتها.

شارك 1601 شخص ضمن مشروع “نشر العدالة”، من خلال 52 ورشة هدفت إلى تعزيز المعرفة والمهارات القانونية، إلى جانب تقديم استشارات قانونية لدعم مواجهة التحديات القانونية والاجتماعية.

ورغم التحديات المرتبطة بالنزوح وضيق الإمكانيات، تمكّن فريق المركز من تكييف الأنشطة بما يتلاءم مع الواقع الميداني، عبر تنظيم جلسات مرنة، وتقديم محتوى مختصر وفعّال يستجيب للاحتياجات الملحّة للمشاركين.

وفي ختام هذه الجهود، أوصت الورش بضرورة توسيع مشاركة النساء والشباب في أنشطة الحلول البديلة، وتمكينهم من تولّي أدوار فاعلة في الوساطة وإدارة النزاعات داخل مجتمعاتهم، إلى جانب تعميق الوعي القانوني والاجتماعي، وإنتاج محتوى إعلامي مستدام يعزّز ثقافة الحوار والعدالة، ويؤسّس لمجتمع قادر على تحويل التحديات إلى فرص للتفاهم والتعاون السلمي.

ويؤكد مركز التنمية والإعلام المجتمعي، من خلال هذه التجربة، أن الإعلام المجتمعي لم يعد مجرد وسيلة لنقل الحدث، بل أداة لصناعة الوعي وبناء الحلول، وشريكًا أساسيًا في تعزيز السلم الأهلي والعدالة الاجتماعية في قطاع غزة، لا سيما في ظل غياب منظومة العدالة الرسمية بفعل الحرب.

اشترك في القائمة البريدية