يكثر الفلسطينيون الحديث عن الوحدة الوطنية بين مكونات الفصائل السياسية الفلسطينية، وهم في ذروة الحديث عنها يتجاهلون الحديث عن الموضوع الأهم وهو السلم الأهلي والمجتمعي، وأمام تعذر تحقيق الوحدة الوطنية يبدو أن الحديث عن السلم الأهلي مسألة غاية في الأهمية في قطاع غزة والضفة الغربية أيضا.
وبهدف مناقشة هذا الأمر نظم المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية «مسارات» ندوة سياسية شارك فيها عشرات المهتمين والباحثين والنشطاء السياسيين، عرض خلالها تجربتين للسلم الأهلي واحدة في المكان الأكثر خطورة والذي يعاني الإبادة أي قطاع غزة، والتجربة الثانية من الضفة الغربية.
وحملت الندوة عنوان «السلم الأهلي في ظل تحديات الوضع الراهن» حيث تحدث فيها من القطاع أمجد الشوا، مدير شبكة المنظمات الأهلية في قطاع غزة، الذي حذر من أن الخطط الأمريكية والإسرائيلية التي ترتبط بتوزيع المساعدات الإنسانية في القطاع تضرب أساس السلم الأهلي في المجتمع الفلسطيني.
وتحدث الشوا عن واقع القطاع ما قبل 7 أكتوبر عام 2023، معتبرا أن القطاع مر بمحطات صعبة طوال 17 عاما من الحصار حيث حالة الانقسام السياسي والتفرد في الحكم خلال تلك الفترة الصعبة.
واعتبر الشوا أن التهجير لم يبدأ بعد السابع من أكتوبر حيث كان يعاني الشباب الغزي من فقدان الأمل وهو ما دفع بالكثير من الشباب إلى دفع الأموال الكثيرة مقابل فرصة سفر كان يترتب عليها الغرق في البحر.
وأشار إلى أن تعطيل الانتخابات والتفرد في القرار السياسي كلها عوامل ضربت منظومة السلم الأهلي، «لقد ترتب على ذلك عدم فتح آفاق للحوار، لقد تعمقت الأزمات الاجتماعية والنفسية في المجتمع. قمعت الحريات ومنع المواطنون من حق التظاهر، لقد ترافق قرار تعطيل الانتخابات بكل مستوياتها حتى في النقابات مع عدم فتح فرصة للمشاركة السياسية وهو ما عمق أزمة القطاع وزرع حالة من الاحباط واليأس دفع كل ذلك إلى تعزيز العشائرية والقبلية على حساب دولة القانون».
وفي الجزء الثاني من مداخلته تحدث الشوا عن الفترة الأولى ما بعد 7 أكتوبر، حيث قام الاحتلال بالاستهداف المباشر لمنظومة سيادة القانون مثل المحاكم والنيابة ومراكز لشرطة والقضاة، وأطلق سراح القتلة والمجرمين. وترك المجال لأخذ القانون باليد، وهو ما دفع البعض لتنفيذ حالات قتل بعيدا عن القانون كما تم الاعتداء على رجال الشرطة.
ورأي الشوا أن هذا الأمر كان جزءا من هدف استراتيجي للاحتلال، بهدف «تفتيت المجتمع الفلسطيني وضرب الهوية الفلسطينية واستخدمها في إطار جريمة الإبادة، فالإبادة لا تعني قتل الناس بل ضرب منظومتهم المجتمعية والوطنية لدورها الفاعل في حماية المجتمع، وتأسيس منظومة الفوضى وهي القادرة على ضرب منظومة الصمود الداخلي وحالة التماسك».
ورأى الشوا أن أسوأ ما في المرحلة ليس الجوع وفقدان الأدوية..ألخ بل حالة الخوف والرعب التي وصل المواطنون لها، وليس هناك أكثر من تأثير على السلم الأهلي من فكرة أن يشعر المواطن بالرعب عبر بث حالة اليأس بينهم، وهو أمر يتعزز كلما فكر المواطن بالمستقبل، «فهذا كان يقود لمراحل صعبة على صعيد الوضع النفسي للمواطنين».
وتابع حديثه: «استهداف السلم الأهلي مسألة قام الاحتلال بهندستها بشكل واضح من خلال استهداف كل شيء منظم في قطاع غزة، تخيلوا أن الاحتلال صادر الملفات القضائية للمواطنين كي يترك أثرا كبيرا على حياتهم على المدى الطويل، وهو ما ترافق مع حالة كبيرة من الصمود».
وضرب مثالا على عمليات تفكيك المجتمع من خلال «عمليات السطو على المساعدات، «كانت عمليات السطو منظمة وبالقرب من مناطق سيطرة الجيش الإسرائيلي، كما أنها ترافقت مع قتل كل من يحاول حماية المساعدات».
واعتبر الشوا أن محاولة الاحتلال في هذه المرحلة كما في مراحل سابقة السيطرة على المساعدات وعسكرتها بمثابة سابقة في تاريخ العمل الإنساني.
وحذر من أن الخطة التي تم تقديمها والحديث عن تطبيقها في المرحلة القادمة حيث تقوم شركات أمنية أمريكية بتقديم المساعدات ضمن نظام أمني وتدقيق في الأوراق وتقسيم المواطنين إلى حاصل على المساعدات وآخرين لا يمكنهم الحصول عليها بإنها تعني حرمان فئات واسعة من الشعب من المساعدات الإنسانية.
وتساءل: «كيف نقبل حرمان فئات من الشعب في القطاع؟ ألا يعني ذلك ضرب فئات من المجتمع وضرب السلم الأهلي؟ هذا يعني حرفيا ضرب النسيج المجتمعي. كيف نقبل أن يحصل شخص ويحرم آخر. كيف نقبل نزوج فئات فيما فئات لا يمكنها أن تنزح».
وشدد على أن الاحتلال يحاول استغلال المجاعة في القطاع لدفع السكان للقبول بالآلية، والتي تتضمن دفعهم للنزوح القسري باتجاه الجنوب، من دون حتى أن تتوفر مقومات الحماية، فمن يذهب للحصول على المساعدات قد يقتل، كما أن الكثير من الفئات الأكثر هشاشه لا يمكنها الوصول لتلك المناطق وبالتالي ستحرم من المساعدات.
وقال إن ما يقدم للقطاع هو حالة من إدامة وإدارة الكارثة الإنسانية وتعميقها، والهدف الاستراتيجي لها هو دفع السكان للتهجير من القطاع.
ورأى أن المواطنين قدموا نموذجا ملهما في الثبات، غير أن الصمود واستمراره يحتاج إلى مقومات أيضا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى السلم الأهلي.
وختم الشوا حديثه بأن أول خطوة يجب أن تتوفر هي الحوار المجتمعي بين كل قطاعات المجتمع بحيث يمكن العمل على إعادة بناء القانون على قواعد أفضل وعودة القضاء للعمل وعودة العلاقة بين القطاعات المختلفة.
وتابع: «أول خطوات الإعمار في القطاع هو بناء علاقة بين المواطنين، هذا يخلق منظومة صمود والتي هي موجودة لكنها مستهدفة عبر ضرب مقوماتها وضرب الهوية الوطنية التي تحملها، والأهم في عملية الصمود هو ربطها بالمشروع الوطني ككل».
الهيئة الوطنية
ومن الضفة الغربية تحدث الأكاديمي والناشط السياسي فريد مرّة، وهو مقرر الهيئة الوطنية للسلم الأهلي، وهي مبادرة وطنية مستقلة تضم في عضويتها 400 شخصية وطنية وسياسية من كافة أماكن تواجد الفلسطينيين.
واعتبر مرة في حديثه أن كافة أماكن تواجد الفلسطينيين مهددة بالسلم الأهلي بين مكونات المجتمع وبشكل جدي.
واعتبر أن ما حرك الهيئة الوطنية هو أحداث مخيم جنين حيث حالة الاشتباك المسلح بين الأجهزة الأمنية والمقاتلين في مخيم جنين.
واعتبر الهيئة بمثابة تعبير عن خيار الشعب، فهي تشكلت لتكون مخرجا للحالة الكبيرة من الانقسام، «فكل المبادرات والتدخلات لم توصل الفلسطينيين إلى الوحدة التي هي مطلب الشعب ورغبته وآماله ومخرجه. وهو ما يجعل من الهيئة بمثابة قرار من الشعب لأخذ القرار بيده، بحيث يعمل الشعب بشكل قوي وضاغط ومؤثر لإنجاز الوحدة».
وأشار إلى أن الانقسام تعزز رغم كل الحوارات واللقاءات ومطالب الشعب، وكل ما يحدث ميدانيا هو السير عكس كل مطالب الشعب الفلسطيني.
واعتبر أن غياب الوحدة والشراكة الوطنية وتجذر الانقسام بالعوامل التي تعتبر مصدر الخطر الأساسي على السلم الأهلي الفلسطيني.
وانبثق عن اللجنة الوطنية ميثاق حمل اسم «وفاق» حيث تشكلت ورقته الأساس وتكونت من أربعة عناصر وهي: الدعوة والعمل للوحدة، ورفض العمل الأمني، الحفاظ على المقاومة، والتمسك بالقانون.
وحول أهداف الهيئة قال مرة إنها تحمل أربعة أهداف مباشرة والتي من ضمنها بناء كتلة شعبية ضاغطة ومؤثرة بالقرار الفلسطيني لفرض الوحدة. ولذلك بذل جهد كبير في هذه المسألة، وحماية السلم الأهلي الداخلي وذلك يتطلب تشكيل شبكة أمان اجتماعي ببعد جماهيري وشعبي.
ووصف حالة «الأمان الاجتماعي» في المجتمع الفلسطيني بإنه «هش، فكل المكونات من قضاء ونقابات..الخ هشة وضعيفة».
واعتبر أن تعزيز ثقافة السلم الأهلي أمام حالة التحريض الراسخة لا يبشر بالخير.
وتساءل: «أين دور الجامعات؟ لماذا تغيب ولا تخوض حوارات لبناء ثقافة السلم الأهلي، فالثقافة السائدة ثقافة انقسام وتفتيت، والاستعداد للاشتباك الداخلي جاهز تماما».
وتسعى الهيئة بحسب مرة إلى تعزيز الشراكة في الجانب الوطني على أبسط الأمور المشتركة، معتبرا أن المجتمع الفلسطيني يعاني من فقدان كبير للأمور المجمع عليها، وهو ما ترافق مع عدم وجود أجسام موحدة.
واعتبر أن المطلوب هذه الأيام تعزيز جبهة الهيئة الوطنية، «فهي ذات بنية من دون علاقات هرمية. الكل فيها مسؤول وعليه الواجب، وفيها لجان لتحقيق الأهداف وكل لجنة سيدة نفسها ويمكنها أن تقوم بالأنشطة والمبادرات، أما أمينها العام فهو فكرتها وهدفها، فليس هناك أي مسؤول حرفي عنها، هي هيئة وطنية ليست مع أحد وليست ضد أحد».
وأوضح أن المخرج من حالة الانقسام وتراجع السلم الأهلي هو «طاقات شعبنا، وهي طاقات كامنة وغير متكاملة».
واعتبر أن ما يجعل الشعب يصمد في أصعب الظروف هو ثقته بنفسه، وقدرته على العمل الجماعي، وإيمانه بإنه يعبر عن قضية عادلة، وكذلك الإيمان بقيم جماعية وطنية، أما ضرب هذه القيم هو ما يضرب السلم الأهلي حرفيا.
وشارك في الندوة القيادية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الدكتورة مريم أبو دقة التي ضمت صوتها لأمجد الشوا حيث اعتبرت أن آلية توزيع المساعدات التي أعلن عنها قبل أيام تعتبر خطيرة جدا، ويجب رفضها.
وأضافت: «نحن نموت ونباد في القطاع، وفي النهاية يقدمون لنا مقترح أن يتم تقسيمنا على حواجز أمنية بين مقبولين ومرفوضين، فيما الاحتلال لا يريدنا جميعا».
ورأت في الآلية الخاصة بتوزيع المساعدات بإنها بمثابة آلية لتشريع القتل أمام العالم.
وأكدت أبو دقة على أنه أمام كل إمكانيات العمل المشترك بين مكونات الشعب الفلسطيني إلا أن القيادة الفلسطينية لا ترى ذلك، وتصر على تكريس الانقسام.
وخلصت إلى أن ما يعمل عليه العدو هو تدمير الهوية تدمير الفلسطيني وشطبه نهائيا، وهذا لا يحدث في غزة بل الأمر يستهدف كل المشروع الوطني.
بدوره قدم ممدوح العكر، الناشط الحقوقي مداخلة أكد فيها على مخاطر توزيع المواد الاغاثية واعتبرها بمثابة آلية خطيرة ومليئة بالألغام.
وشدد على أننا اليوم بحاجة لقرار وطني كامل وليس من فصيل أو جهة سياسية محددة، لرفض هذه الآلية، وفي المقابل علينا ان نقدم تصورات لآليات بديلة.
وأكد على أن أهمية هيئة السلم الأهلي هو أنها تأتي في ظل «فشلنا في انجاز الوحدة من فوق لتحت (من قمة الهرم السياسي إلى القاعدة الشعبية)، كل المحاولات
فشلت، كلنا ندرك ذلك بوضوح كامل، ونحن اليوم في زمن الإبادة فيما هناك انقسام ورفض للوحدة الوطنية».
وشدد على أن الأبشع هو أن يكون هناك قرار فردي «فيتو» على الوحدة الوطنية.
واقترح أن يكون العمل على تحقيق الوحدة الوطنية من تحت إلى أعلى (من الجماهير إلى قمة الهرم السياسي)، معتبرا أن البناء الذي يبدأ من تحت يكون متينا ومتجذرا بالأرض.
وشدد على أهمية تحقيق الوحدة من حلال العمل على برنامج تكون فيه الأولوية للمدراس والجامعات والمجتمع المدني بكل ما يمثل من فئات ومؤسسات، فهذا هو الخيار المتاح بعد فشل كل الخيارات السابقة.