الفيروس التاجي والنساء...اللامساواة بين الجنسين تفاقم التداعيات!!



م. تيسير محيسن
مدير دائرة شؤون غزة في الإغاثة الزراعية


طبقا للإحصائيات تبلغ نسب الإصابة بين النساء بفيروس كورونا من 30-40%. عند صدور هذا المقال من المرجح أن تصل أعداد المصابين عالميا 20 مليون، بينما قد يتجاوز عدد الوفيات 750 ألف إنسان. إذا كانت النساء أقل عرضة للإصابة، إلا أنهن الأكثر تضررا من التداعيات والنتائج أثناء الأزمة وما بعدها؛ صحيا واجتماعيا واقتصاديا، كما تبين المعطيات. في هذه العجالة سوف أتوقف قليلا عند بعض هذه المعطيات مع تسليط الضوء على حال النساء المزارعات والريفيات.


من الثابت أن النساء هن من يقود الاستجابة الصحية (المواجهة في الخطوط الأمامية) إذ يشكلن 70% من القوى العاملة في المجال، وهذا ما يعرضهن لخطر الإصابة بالعدوى، كما تتحمل النساء القسط الأكبر من العبء المنزلي وما يترتب على تدابير الاحتواء والعزل وإغلاق المدارس ودور الحضانة من أعمال رعاية إضافية لكبار السن والأطفال والمرضى. تواجه النساء، كذلك، مخاطر متزايدة من العنف أو الاستغلال أو سوء المعاملة وأحيانا التحرش.


وبسبب التمييز ضدهن/انعدام المساواة بين الجنسين (والذي يتفاقم ويفاقم بسبب التوتر الناجم عن الأزمة وإدارتها)، لا تحظى النساء غالبا بفرص حقيقية للتعبير عن أنفسهن والمشاركة في وضع سياسات الاستجابة واتخاذ القرارات ذات الصلة. ومن الظواهر اللافتة، أن النساء العاملات في مجال الرعاية الصحية والاجتماعية يتعذر عليهن الإيفاء بمسؤولياتهن وأدوارهن في الرعاية المنزلية (مع ازدياد الطلب عليها) وذلك خوفا من نقل العدوى إلى أفراد أسرهن.


يتجسد البعد الاقتصادي في الأزمة في انقطاع سلاسل التوريد الدولية، ووقف عمليات الإنتاج أو تخفيضها، خسارة الوظائف وبقاء العمال في منازلهم وارتفاع قيمة فاتورة التكاليف وبالتالي انعدام الأمن الاقتصادي والأمن الوظيفي، واحتمالات ظهور أزمة غذاء عالمية مصحوبة بارتفاع الأسعار.


وبسبب طبيعة الوظائف التي تشغلها النساء، وبسبب فجوة العمالة بين الجنسين، كانت النساء أكثر عرضة لخسارة الوظائف والتسريح وانقطاع الدخل من الرجال (أي أبرز ضحايا الانكماش الاقتصادي). تعمل النساء غالبا في الاقتصاد غير الرسمي، وهي وظائف غير مسجلة وتفتقر عمومًا إلى الحماية الاجتماعية أو القانونية الأساسية واستحقاقات التوظيف. ظاهرة أخرى تتعلق بالشركات المتوسطة والصغيرة (معظم النساء العاملات لحسابهن الخاص، يمتلكن هذا النوع من الشركات) تتضرر بشدة من انقطاع سلسلة التوريد، وتتأثر بشدة من الانكماش الاقتصادي على المدى الطويل.


تعاني الشركات العاملة في قطاعات الخدمات (البيع بالتجزئة والسياحة والنقل) من تداعيات تدابير الاحتواء، ومن انهيار الطلب، ونقص السيولة الناتج عن ذلك. هذا وتفتقر العديد من هذه الشركات إلى الموارد اللازمة للتكيف. وبسبب مسؤوليات الرعاية الأكبر غالبا ما يكون من الصعب على النساء العثور على عمل بديل وتدفقات دخل (مثل العمل الجزئي) بعد التسريح، وفي بعض البلدان بسبب تفضيل عمالة الذكور على النساء. وقد بينت تجارب سابقة، أنه عندما تضطر النساء إلى التخلي عن العمل والدخل للبقاء في المنزل خلال الأزمات الكبرى، غالبا ما يجدن صعوبة في العودة لتلك الوظائف بعد الأزمة.


من بين أشياء كثيرة، يتوقع خبراء أن تتفاقم أزمة الغذاء العالمي بسبب تفشي فيروس كورونا والتدابير المتخذة لاحتوائه. يرى البعض أنه لمواجهة ذلك، ولتجنب الأزمة يجب إيلاء اهتمام خاص لميزة غالبا ما يتم التغاضي عنها وهي الدور المحوري الذي تلعبه النساء في استدامة النظم الغذائية وصيانتها.


يشكل الوباء تهديدا خطيرا لسبل العيش الريفية من خلال إعاقة مشاركة كل من النساء والرجال في الأنشطة الاقتصادية كمزارعين ومصنعي غذاء وتجار وعمال. والنساء الريفيات أكثر ضعفاً من الرجال لأنهن يحصلن على مدخلات إنتاجية أقل ويواجهن صعوبة في الوصول إلى الأسواق والموارد والخدمات المساندة مثل التمويل والإرشاد والمعلومات والتكنولوجيا. من بين أشياء أخرى، يضعف هذا الأمر قدرة النساء الريفيات على تلبية الاحتياجات الغذائية لأسرها، والحصول على الخدمات الصحية وكسب الدخل. من هنا يعتبر "تمكين المزارعات" واحدة من أهم استراتيجيات مكافحة الوباء وتداعياته وتحديدا ما يتعلق بتأمين الغذاء والوصول إليه.


يمكن الإشارة إلى التدابير التالية على سبيل المثال وليس الحصر: تأمين الوصول إلى الحماية الاجتماعية (التحويلات النقدية وفرص التشغيل)، اعتماد تدابير خاصة لدعم مشاركة الريفيات في سلاسل القيمة الغذائية الزراعية، دعم برامج وتدخلات مبتكرة لإنتاج الغذاء في المنزل (الحدائق المنزلية)، تسهيل وصول أصحاب الحيازات الصغيرة من الرجال والنساء إلى الأسواق من خلال معالجة قيود التنقل واضطرابات السوق،...إلخ


الوباء الحالي بقدر ما يفاقم الفروق بين الجنسين بما يجعل النساء أكثر عرضة لتداعياته، لكنه في ذات الوقت يكشف هذه الفروق ما يسهل التعامل معها والتقليل منها، من ذلك مثلا المسؤوليات غير المتناسبة عن الأعمال المنزلية والرعاية، ضعف الوصول للموارد والمعلومات ومستلزمات الإنتاج. هذه وغيرها ديناميكيات تهدد بتوسيع الفجوة بين الجنسين في الاستثمارات والإنتاجية والدخل، ما لم يتم التدخل لإعادة التوازن بين المسؤوليات والصلاحيات والأدوار دون تمييز.


خلال الجائحة أظهرت النساء قدرة سياسية كبيرة وحكمة فائقة في التعامل مع الأزمة. بينما عجز قادة دول كبرى من الذكور عن الإدارة الناجحة؛ سجلت سبع دول تقودها نساء نجاحات بارزة (نيوزيلندا، أيسلندا، الدنمارك، النرويج، فنلندا، ألمانيا، تايوان).


وعليه، ثمة من يرى أن عالم ما بعد كورونا يجب أن يشهد تغيرا في نمط القيادة وشكلها ووظائفها (من القيادة الحازمة أو النمط البونابرتي الذي يمجد البطولة الشخصية، إلى القيادة التكيفية أو القيادة التي تفسح المجال لأسلوب أكثر رحمة وتنسيقا وتواصلا ويقوم على الإنجاز الجماعي). لقد أظهر الوباء الحالي بجلاء أنه عندما يتعلق الأمر بالحكم والتعامل مع الأزمات والكوارث، فإن لدى النساء مهارات و"كفايات" تمكنهن من الأداء بصورة أفضل من الرجال (من خلال تعبئة ومساعدة الآخرين على تحقيق أهدافهم الخاصة، وبالتالي الوصول إلى الهدف العام).


في أعقاب عدوان الجرف الصامد 2014، والخسائر الهائلة التي لحقت بالقطاع الزراعي تبنت الإغاثة الزراعية رؤية مفادها السعي نحو قطاع زراعي معافى ومجدي اقتصاديا ومجتمعات زراعية صامدة وآمنة غذائيا وأقل عرضة للمخاطر المحتملة، عبر إنجاز عمليتي الانعاش وإعادة الإعمار على أساس مبدأ "البناء بصورة أفضل" وإعمال معايير حقوق الإنسان. وفي القلب من الاستراتيجية المقترحة كان هدف "تعزيز مشاركة النساء وتمكينهن" انطلاقا من القناعة بأن أفضل طريقة للتعاطي مع الكارثة هي التعامل معها بوصفها فرصة لتحسين الظروف القائمة ما قبل وقوع الكارثة؛


بما في ذلك الانصاف الجنساني. ولهذا، كان على إعادة الإعمار أن تتجاوز مجرد التفكير باعتبارها عملية إعادة الأشياء على ما كانت عليه، وإنما فرصة للقيام بالتدابير التي تجعل الفئات المضطهدة أو الخاضعة للتمييز لأي سبب، أقل عرضة وانكشافا، ضمان الانصاف الجنساني، تحسين ظروف معيشة النساء وخصوصا أولئك اللواتي يرأسن أسر. إن إدماج النساء ومشاركتهن من شأنه أن يجعل من إعادة الإعمار والانعاش فرصة حقيقية لكل ما سبق. ومن أهم التوصيات السياساتية والعملية التي تبنتها الإغاثة آنذاك: تعميم سياسة الدمج (دمج النساء وقضاياهن واحتياجاتهن وأولوياتهن في مسار عملية التنمية؛ تخطيطا وتنفيذا وتقييما) وأيضا مواصلة برامج التوعية والتعليم والتدريب في إطار ريادة الأعمال الزراعية وحضانتها واكساب النساء الخبرات والمهارات في مجال التسويق وسلاسل القيمة واستخدام التكنولوجيا.


إن وقائع التعامل مع أزمة كورونا وتداعياتها المحتملة في بلادنا منذ حوالي خمسة أشهر، والتجربة العملية للإغاثة الزراعية في إدارة الطوارئ، تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن تعزيز مفهوم "القيادة التكيفية" في إدارة شأن التنمية الزراعية والريفية وضمن مشاركة الريفيات وتمكينهن يعد من بين أهم أسباب النجاح في التغلب على الكوارث والتعافي منها وإعادة البناء بصورة أفضل!




اشترك في القائمة البريدية