أزمة الغذاء: بين تآكل التربة وانقطاع سلاسل التوريد!

بقلم: تيسير محيسن


مدير دائرة شئون غزة ( الاغاثة الزراعية)


استغرقت إصابة المليون الأول بفيروس كورونا ثلاثة أشهر، بينما أصيب المليون الأخير في غضون ثمانية أيام فقط. يبدو أننا بتنا أمام جولة ثانية من الوباء اللعين.


وفقا لتقرير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) ستواجه أسواق المواد الغذائية حالة من انعدام اليقين لعدة أشهر أخرى بسبب فيروس (كوفيد-19). هذا مع العلم، أن قطاع الأغذية الزراعية سوف يظهر قدرة أكبر على الصمود في مواجهة الأزمة مقارنة بغيره من القطاعات.


حتى الآن لم يظهر أثر ذو معنى على عملية الإنتاج الزراعي في قطاع غزة جراء كورونا والتدابير المتخذة لمواجهته من تباعد اجتماعي أو التداعيات الناجمة عن تفشيه من قبيل انقطاع سلاسل التوريد الإقليمي والعالمي وأيضا انتقال العدوى وحدوث إصابات في صفوف المزارعين وأسرهم. بالطبع هذا لا يعني أن القطاع الزراعي لا يعاني من اعتلال واختلال سابق على الجائحة ولأسباب عدة أبرزها الممارسات الاحتلالية.


في سلسلة من المقالات سوف ندرس أسبوعيا تأثيرات الأزمة المركّبة في الحالة الفلسطينية ونركز خصوصا على عمليتي إنتاج وتسويق المنتجات الزراعية في قطاع غزة وارتباط هاتين العمليتين بمقولات وعمليات وتدخلات من قبيل الحماية الاجتماعية وبناء المنعة والحد من المخاطر وأهمية التنظيم الريفي والإرشاد الزراعي؛ وصدى ذلك كله على حال الأمن الغذائي وأزمة الغذاء والتغلب على انعدام اليقين الذي يحول دون سير عملية الإنتاج الزراعي بسلاسة ويسر.


ولكن قبل ذلك كله، دعوني أتوقف عند فوز العالم الأمريكي، الهندي الأصل، راتان لال بجائزة الغذاء العالمية لعام 2020، والتي تعد من أرفع الجوائز. تمنح الجائزة سنويا اعترافا بالإنجازات الإبداعية التي تسهم في التنمية البشرية من خلال تحسين نوعية وكمية ومدى توافر المواد الغذائية في العالم. أطلق عليها البعض جائزة نوبل للأغدية والزراعة. منذ عام 1987، تُمنح الجائزة سنويا تقديرا لأي مساهمة في إطار تحسين الإمدادات الغذائية العالمية (علوم الحيوان، تربية الأحياء المائية، علوم التربة، الحفاظ على المياه، التغذية/الصحة، علوم النبات/علوم البذور، أمراض النبات/ حماية المحاصيل، تكنولوجيا الغذاء/ سلامة الأغذية، .... إلخ).


أنشئت الجائزة عام 1986 على يد الدكتور نورمان بورلاوغ الحاصل على جائزة نوبل للسلام (1970) لمنجازاته المتعلقة بتطوير سلالات من القمح تدر محصولاً عالياً، ساهم في تجنب حدوث مجاعة في آسيا في الستينات من القرن العشرين.


أوصى بورلاوغ لجنة نوبل بإنشاء جائزة إضافية، مخصصة للغذاء والزراعة. رفضت اللجنة اقتراحه ولذلك قرر إنشاء "جائزة مماثلة لجائزة نوبل تختص بالغذاء".


وفقا لمؤسسة جائزة الغذاء العالمية، في حفل إعلان الفائزين "الممارسات الزراعية التي دعا إليها لال هي الآن في صميم الجهود لتحسين النظم الزراعية في المناطق الاستوائية وعلى الصعيد العالمي". اعتبرته المؤسسة رائدا في علوم التربة؛ حيث له شغف كبير بالأبحاث التي تعمل على تحسين صحة التربة، وتحسين الإنتاج الزراعي، وتحسين جودة الأغذية، واستعادة البيئة، والتخفيف من تغير المناخ.


يعمل الدكتور لال أستاذا جامعيا متميزا في علوم التربة ومديرا لمركز إدارة الكربون وعزل الكربون في جامعة ولاية أوهايو (OSU). في خطابه في الحفل قال لال "إن الفرح والإثارة اللانهائيين في الحصول على جائزة الغذاء العالمية لعام 2020 يذكرني بالامتنان والامتياز والشرف لعمل المزارعين من جميع أنحاء العالم". ويرى لال أن المهمة الملحة المتمثلة في إطعام البشرية لا يتم الوفاء بها حتى "يتمكن كل شخص من الحصول على كمية كافية من الطعام المغذي المزروع في تربة صحية وفي بيئة نظيفة".


خلال مسيرته المهنية التي امتدت لأكثر من خمسة عقود وأربع قارات، روج الدكتور لال لتقنيات مبتكرة لحفظ التربة تفيد سبل عيش أكثر من 500 مليون مزارع من أصحاب الحيازات الصغيرة، مما يحسن الأمن الغذائي والتغذوي لأكثر من ملياري شخص وينقذ مئات الملايين من هكتارات النظم الإيكولوجية الاستوائية الطبيعية.


كان برنامج الغذاء العالمي أعلن إن بحث الدكتور لال المبتكر أظهر كيف أن التربة الصحية هي عنصر حاسم في الزراعة المكثفة المستدامة؛ ما يزيد الإنتاجية، بينما يتطلب كميات أقل من الأراضي، والكيماويات الزراعية، والحراثة، والمياه، والطاقة.


كما نعلم جميعا، يعتمد بقاؤنا ونوعية حياتنا فوق هذه الأرض على طبقتين رقيقتين جدا: طبقة من التربة (نأكل طعامنا منها) وطبقة من الهواء (نتنفس منها). ومنذ اكتشاف الزراعة قبل 10.000 سنة ومنذ الثورة الصناعية منذ 200 سنة والتربة تتآكل (التصحر) والهواء ينفذ (زيادة ثاني أكسيد الكربون). ومن المثير أن مشكلتي الغلافين الجوي والأرضي، من وجهة نظر زراعية، لهما ذات الحل: التقاط الكربون من الهواء وإعادة حقنه في التربة! (جوهر أبحاث لال: تربة تعزز الإنتاج الغذائي وتحافظ على الموارد الطبيعية وتخفف من تغير المناخ).


بناءً على تحليله الشامل للعوامل التي تؤثر على تدهور التربة، بدأ لال في التركيز على بناء الصحة الجسدية للتربة وكمية المواد العضوية الموجودة فيها. قام باستكشاف وتحويل تقنيات مثل عدم الحراثة، وتغطية المحاصيل، والتغطية، والحراجة الزراعية التي تحمي التربة وتحافظ على المياه والعناصر الغذائية، والكربون والمواد العضوية في التربة. وقد أدى ذلك بدوره إلى تحسين استدامة النظم الإيكولوجية الزراعية وتقليل المخاطر التي يتعرض لها المزارعون من حالات الجفاف والفيضانات وغيرها من الآثار المترتبة على تغير المناخ.


سافر لال إلى جميع أنحاء العالم لدراسة التربة. في كل مكان، اكتشف الاختلافات والتنوع؛ ثقافات، لغات، مناخات - لكنه وجد أيضا أن المزارعين يواجهون نفس المشاكل التي واجهها عندما كان طفلاً في مزارع الكفاف بالهند. كافح صغار المزارعين باستمرار ضد المشاكل الناشئة عن تدهور التربة.


وقد نبهته هذه التجارب إلى أهمية النظر في القضايا الاجتماعية والثقافية في حياة المزارعين علاوة على الجوانب الزراعية والبيئية.


بينما تشهد بعض البلدان، مثل الصين والهند، زيادة حادة في الطلب على الغذاء، وأيضا قيودًا متزايدة فيما يتعلق بالأراضي والمياه العذبة، توجد احتياطيات كبيرة من الأراضي الزراعية في أمريكا الجنوبية وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. إن حل هذه المعضلة في الإمدادات الغذائية أمر لا يمكن تصوره فعليا دون الاستفادة من إمكانات الإنتاج الزراعي غير المستغلة للمزارع الصغيرة الموجودة في العديد من الاقتصادات النامية والناشئة. هناك حوالي 500 مليون مزرعة صغيرة في العالم النامي. وهي تمثل أكثر من 95 في المائة من الحيازات الزراعية وتدعم حوالي ملياري شخص.


في الوقت الذي يكافح فيه الناس حول العالم التبعات والتداعيات الطبية والاقتصادية لوباء كورونا، يواجه الكثيرون أيضا كارثة كبيرة أخرى: ندرة الغذاء. إما بسبب نقص من الأموال والأنفس ما ينعكس على قلة العرض. من المتوقع أن يتزايد كل من الانكماش الاقتصادي والبطالة في الأشهر المقبلة، من المحتم أن يرتفع
عدد العائلات التي تواجه انعدام الأمن الغذائي والمجاعة.

حتى قبل انتشار الفيروس كان ما لا يقل عن 135 مليون شخص حول العالم "يسيرون نحو حافة المجاعة". الآن، نتيجة للوباء، يمكن لهذا الرقم أن ينمو بسرعة بل ويتضاعف! ووفقًا لما يراه مسؤولو الفاو وبرنامج الغذاء العالمي، فإن معظم "الذين يسيرون نحو حافة المجاعة" يعيشون في "الجنوب" حيث المعاناة من الجفاف وتغير المناخ وآثار الحروب؛ ومع كورونا لم يعد الأمر قاصرا عليهم وحدهم، فحتى الأغنياء، قد يواجهون ندرة شديدة في الغذاء في الأشهر المقبلة. وبالتالي فإنه يترتب على كل المعنيين تكريس قدر أكبر
من الاهتمام لضمان الإمدادات الغذائية. لا يعتبر هذا الأمر مجرد "التزام أخلاقي"، وإنما شرط أساسي مسبق للاستقرار العالمي.




اشترك في القائمة البريدية