انعدام الأمن الغذائي بوصفه أداة "تحكم وسيطرة" قطاع غزة نموذج!!

بقلم / م. تيسير محيسن


بينما لازال الوباء يحصد مزيدًا من الأرواح، ويتفشّى بسرعة مذهلة، ويهدد بعواقب وخيمة، اقتصادية واجتماعية وسياسية؛ يحتدم الجدل حول كلّ شيء تقريبا؛ كما تُجرى "إعادة النظر" في المسلمات والنظريات والمقاربات التي حكمت وفسرت السلوك البشري منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.


أثارت احتمالات تحوّل الوباء من أزمة صحية إلى أزمة غذائية وإنسانية مخاوف الكثيرين؛ وجددت النقاش (وربما الخلاف العميق كذلك) حول أزمة الغذاء والأمن الغذائي وسلاسل التوريد. في محاولة لمقاربة هذه الأزمة التي من المتوقع أن تتفاقم، من المفيد استخدام "نظرية النظام الغذائي" إطارًا تحليليًّا. جرى تطوير هذه النظرية أواخر ثمانينيّات القرن العشرين، وهي مقاربة يسارية، تشرح الدور الاستراتيجي للزراعة في بناء وتنمية الاقتصاد الرأسمالي العالمي، كما تشرح الصيرورة التاريخية لانتقال الأنظمة الغذائية (الفترة الاستعمارية، ما بعد الحرب العالمية الثانية، العولمة)، إلى ذلك تفسّر عملية تراكم رأس المال والقوة الجيوسياسية ارتباطا بأشكال الإنتاج والاستهلاك الزراعيين.


يشتمل النظام الغذائي على ثلاثة عناصر: سلاسل الإمدادات الغذائية، وبيئات الأغذية، وسلوك المستهلك. فأما سلسلة الإمداد فتشمل جميع الأنشطة التي ينتقل الغذاء عبرها من مرحلة الإنتاج إلى مرحلة الاستهلاك. وأما البيئة فتعني السياق المادي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي الثقافي الذي يتم فيه إنتاج الغذاء والحصول عليه واستهلاكه. أخيرًا، يشير سلوك المستهلك إلى الخيارات التي يقوم بها الناس على مستوى الأسرة أو الفرد، بشأن الغذاء (بما في ذلك توزيعه حسب نوع الجنس والعمر).


في هذه الآونة لم يعد يواجه العالم زيادة حادة في الطلب على الغذاء فقط، أو مواجهة القيود المتزايدة فيما يتعلق بالأراضي والمياه العذبة، وإنما انقطاع سلاسل توريد الغذاء نتيجة الإجراءات والتدابير المتخذة لمواجهة كورونا.


تشير التجربة الفلسطينية، وتجربة غزة تحديدًا، إلى أن واحدة من أهم استراتيجيات مواجهة الاختلالات في سلاسل الإمدادات الغذائية يتمثل في الاستفادة من إمكانات الإنتاج الزراعي للمزارع الصغيرة بما في ذلك الزراعة على مستوى المنزل أو ما يسمى "الحديقة المنزلية" واعتماد سياسة الاكتفاء الذاتي أو تعزيز سلاسل التوريد المحلية والإقليمية وتطوير البدائل المحلية في مواجهة سياسة الحصار وفرض القيود على الحركة من وإلى القطاع!


في مرحلة ما، بعد التعافي من الوباء، سيكون التحدي "كيف نجعل الزراعة صغيرة النطاق أكثر كفاءة وأكثر توجهًا نحو السوق ومربحة ومستدامة بيئيًا بحيث لا تسهم فقط في الأمن الغذائي ولكن أيضًا يمكنها تحفيز النمو الاقتصادي ومكافحة الفقر، ولا سيما في حال رفع الحصار وانفتحت غزة على جوارها الإقليمي.


وقتئذ يمكن الافتراض أن إنتاج الغذاء سوف يصبح عملًا تجاريًا مربحا وصديقا للبيئة ومستداما، ويمكن استخدام مناهج سلسلة القيمة لدمج أصحاب الحيازات الصغيرة، عبر تنمية قدراتهم وتمكينهم من الوصول إلى الخدمات المالية والمعرفة والتعليم والمعلومات والأراضي والمياه والأسمدة، وذلك عن طريق تنظيمهم جماعيا وتأطيرهم ضمن تعاونيات، تجمع بين الجانبين الاقتصادي والاجتماعي. من شأن هذه التعاونيات أن تعوض عيوب الإنتاج الصغير وتجزئته وتخلق جبهة موحدة أقوى وأقدر على المفاوضة والتأثير والمحافظة على حصة سوقية. ولكن قبل هذا كله، وطالما استمرت الجائحة والقيود المفروضة على حركة الأفراد والسلع، لابد من التشديد على الجانب التكافلي والتضامني في إنتاج الغذاء بهدف الحفاظ على الحياة وتمكين الفقراء والفئات الضعيفة من الوصول إليه بالمعنى المادي والاقتصادي عبر أنماط مختلفة من الحماية الاجتماعية.


في الكتاب الصادر عام 2013، والذي يحمل عنوان "التحكم في الغذاء يعني التحكم في الناس.. النضال من أجل الأمن الغذائي في غزة" يدرس الباحثان بشكل شامل العلاقة بين الناس والأراضي والأمن الغذائي في غزة، باستخدام "نظرية النظام الغذائي" في تحليل ديناميات السلطة والتحكم في إنتاج الغذاء وتوزيعه. ويخلصان إلى استنتاج مفاده أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي اتبعت سياسات اقتصادية تكرس الهيمنة والتبعية. في الواقع، تقلصت قدرة الفلسطينيين على اتخاذ قرارات جماعية وسيادية بشأن نظمهم الغذائية والزراعية بسبب الاحتلال. استخدمت إسرائيل "انعدام الأمن الغذائي" كسلاح في مشروعها الاستعماري. إن انعدام الأمن الغذائي في غزة ليس نتيجة ثانوية غير مقصودة للنزاع، وإنما أداة سيطرة وتحكم؛ ساهم الاقتصاد السياسي للمعونة الخارجية في إضفاء الشرعية عليها، وكذلك أداء السلطة الفلسطينية وبعض سياساتها (الدفع باتجاه التخلي عن الزراعة عبر تقليص الموازنات المرصودة).


لعله من الضروري، في زمن كورونا، العودة إلى التعريف الإجرائي للأمن الغذائي في قطاع غزة الذي طوره الباحثان والمستمد من نظرية النظام الغذائي والاقتصاد السياسي للاحتلال، حيث يرتكز على المبادئ التالية: للناس الحق في تعريف أمنهم الغذائي وقياسه، السيادة الغذائية أساس الأمن الغذائي، انعدام الأمن الغذائي لا ينتج عن البطالة وانخفاض الدخل فقط، وإنما كذلك نتيجة انعدام المساواة الهيكلية في أنظمة الغذاء والزراعة الناجمة أساسا عن سياسات الاحتلال.


"يتحقق الأمن الغذائي عندما يكون لجميع الأشخاص الذين يتمتعون بكامل قوتهم وتحررهم من الخشية ألا يجدوا ما يكفي من الطعام، في جميع الأوقات، إمكانية الوصول المادي والاقتصادي إلى نظم الزراعة الصحية ووسائل استصلاح الأراضي. لجميع الناس الحق في الحصول على غذاء كافٍ ومأمون ومغذٍ من خلال دعم سبل العيش الزراعية. جميع الناس قادرون على تلبية احتياجاتهم الغذائية وتفضيلاتهم لثقافة غذائية نشطة وصحية. يجب أن يكون جميع الناس قادرين على تلبية هذه المحددات من خلال آليات التداول الديمقراطي".


يشدد هذا التعريف للأمن الغذائي والموائم لحالة قطاع غزة، والذي يروج له الباحثان، على المكونات المفقودة في التعريف التقليدي المتداول، وهي: الحق في الحصول على الموارد وسبل العيش الزراعية، مسؤولية المجتمع ودوره، وثقافة الغذاء المحلية. يحول هذا التعريف مفهوم الغذاء من اعتباره مجرد "سلعة" إلى الغذاء بوصفه "حقًا" لكل الناس، جدير بالذكر أن المفكر المصري سمير أمين كان قد وجه في أعقاب أزمة 2008/2009 إلى ضرورة أن تستثمر الدول النامية في قطاعها الزراعي وأن تتخلص من ديونها الخارجية سبيلًا لنهضتها وتنميتها!!



اشترك في القائمة البريدية