هذرات فيروسية

بقلم رفعت صباح


في خضم الوضع الراهن، يتبنى الجميع تمنيات جوهرها تساؤلات حول متى تعود الحياة إلى طبيعتها؟ متحسرين على أيام خلت كان فيها الوضع " عاديا" او طبيعيا حسب تعبيرهم.


حقيقة، لا أعرف إذا ما كان الوضع قبل الكورونا "عاديا" حتى أصبحنا نتمنى العودة إلى ما كان قبل المشهد الكوروني، فهل كان الوضع عاديا في ظل ما شهده العالم من قتل ودمار حتى بتنا نتمنى عودته؟! وهل كان الكل سعيدا والأمن مستتبا ولا وجود للمعاناة والمرض؟ وهل كان الصومال موحدا وخاليا من كل أشكال العنف؟ وهل كانت سوريا تنعم بليال دمشقية آمنة؟ وهل كانت بيروت تترنم على وقع الزجل والشعر؟  وهل كانت مصر تنعم بالاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وبمنأى عن  الإرهاب متعدد الأشكال والتطرف؟ وهل كان العراق يضيء قناديله على خطى هارون الرشيد ؟وهل كان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حاميي الحمى؟ وهل كانت غزة بلا حصار  ويؤمها الوافدون والسياح بمنأى عن ويلات الحصار والعدوان؟ وهل كنا قبل الأزمة بلا أسرى في سجون الاحتلال أم كان وما زال  آلاف أبناء شعبنا في غياهب السجون؟ وهل كان مجالا الصحة والتعليم في وطننا العربي بخير وعافية وبموازنات كبيرة؟ وهل كانت رواتب المعلمين تتصدر المشهد وتلبي حاجاتهم الأساسية وتضمن لهم ولعائلاتهم حياة كريمة؟ وهل؟ وهل؟ تساؤلات ترتبط بمشهد موغل في التفاصيل التي تلامس جوانب حياتنا كلها قبل  كورونا.


ربما بل وبلا شك كان الوضع –على الأقل- من حيث الطمأنينة الآنية أفضل حالا من الآن، فقلق الكورونا أقضّ مضاجع الجميع، لكنني لم آت من كوكب آخر لأقول إن ثمة ما يمكن البوح به عما كان، دون التقليل من حجم الجهود ونوعيتها في عدد من المجالات والقطاعات، لكن – وهنا لا أتحدث عن سياق فلسطيني بل أستحضر مجتمعاتنا العربية ومجتمعات عالم الجنوب عموما،- هل كان عمل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية يسير بانسجام وتنسيق وخال من كل أشكال المماحكات والتعطيل؟ هل كان هناك تعزيز وتحفيز لمن يعمل؟ وهل كانت تسود المجتمعات مشاعر المحبة والسلام وتشهد توفير كل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟ هل كان كل الأطفال ملتحقين بلمدارس  ؟ وهل كنا في وضع لم يضطر فيه أحد لهجر أولاده أو يضطرون هم لهجره هربا من ويلات الحروب وطلبا للقمة العيش  ؟ وهل لم يشهد البر قبل البحر حالات موت لمهاجرين بحثوا عن الخلاص فإذا بهم في قلب الخلاص ذاته؟ هي تساؤلات تؤكد في مجملها أن ما نعتبر أنه كان عاديا لم يكن في واقع الحال عاديا، إلا إذا كانت مرارة العيش والمعاناة باتت بحكم كونها كانت دارجة حالة اعتيادية، وسأسرد عليكم نقاطا قد توجز مرامي التساؤلات وتوضحها، وهنا أرجو ألا يتم فهم الحديث بأني لا أتمنى زوال الوضع الراهن، بل أنا أكثر المبتهلين بأن يتوارى الوباء بلا رجعة ليكون ذكرى.


أما النقاط التي آثرت أن يتمحور حديثي حولها، فهي:


أولا. النساء: هل كانت نساء مجتمعاتنا العربية يعشن في وضعية تُحترم فيها كرامتهن؟ الإجابة كامنة فيما تعيشه العاملات في المصانع  من واقع تنتهك فيه حقوقهن، وأيضا فيما تعانيه المرأة اجتماعيا في حال كانت مطلقة، أو أرملة، أو أخطأت خطأ واحداً.


 ثانيا. الأشخاص ذوي الإعاقة ، هل كانت الخدمات كلها متوافرة لهم؟ تساؤل تكمن الإجابة عنه في تقييم مدى جاهزية الشوارع والأبنية والمؤسسات والبيوت والأرصفة  لخدمتهم، ومدى استيعابهم في الوظائف.


ثالثا. هل كان العمال قبل الأزمة  في أوضاع تحترم فيها كرامتهم؟  وما مدى توافر ضمانات حقوقية وقانونية لحمايتهم من الظلم؟ تساؤل سأضطر لسحبه في حال لم يكن عمالنا يعانون من شظف العيش، وهنا أستثني وجود نماذج مشرقة من التعامل مع العمال، لكن كم نسبتها؟ لا أبالغ حين أعتبرها نسبة لا يمكن إيرادها.


رابعا. المعلمون:  لم نعد غير قادرين على التذكر، فالأزمة لا زالت في بداياتها، وما انقضى شهر وليس دهرا، فهل كان المعلمون علية القوم في مجتمعاتهم من جميع النواحي؟ وهل كانوا في وضع لم  يحتج فيه أي منهم لعمل آخر ليوفر التعليم لأبنائه؟  هل كان تعليم أبنائهم في الجامعات مجانا؟ وهل كان المعلمون المتقاعدون ينعمون بحياة كريمة؟


  خامسا. التعليم: هل كان التعليم نوعيا ومنصفا وشاملا؟ علما أن كل مفردة من المفردات السابقة تتطلب تحليلا معمقا للوقوف على مجمل ما يرتبط بتقييم المدخلات والمخرجات.


 سادسا. النزاهة: أظننا كنا في واقع خلت فيه مجتمعاتنا العربية من كل أوجه الفساد، وما دمت في مرحلة الظن والشك، فأترك الأمر لمن يتمنون عودة الأمور إلى ما قبل الأزمة لتخليصي من حالة الشك.


 لست متشائما، ولست مناكفا، لكني كنت أتمنى أن ترتفع الأصوات المنادية بأن تكون الأزمة منطلقا لعالم جديد ما بعد كورونا، عالم يتيح للفقراء الحصول على منح لتعليم أطفالهم، وينعم الطاعنون في السن والفقراء بضمان لتأمين شيخوختهم، وأن نكون على موعد مع مجانية في التعليم و الصحة.


هي أزمة تجبرنا على محاكمة كل ما كان، وفي الوقت الذي كبلّت فيه الأزمة عقولنا وجب أن تعزز إطلاق العنان لمخيلتنا لتمرح وتسرح خارج البيوت وتعودنا بِنَا للوراء، عبر تفحّص إذا ما كنّا نعيش أوضاعا عادية أم لا؟


 لا، يا أصدقائي، لم نكن نعيش حياة عادية أو طبيعية. كنا نعيش حياة مليئة بالخوف والقهر والإحساس بالظلم،  والحديث هنا لا يقتصر على أنظمتنا الرسمية، بل يشمل قيمنا وسلوكياتنا، عانينا من عدة مظاهر سلبية، بتنا لا نثق بأقرب الناس لنا، وتعاملنا مع مشاهد ذبح أطفال غزة واليمن والصومال وسوريا والعراق وغيرها من بلدان العالم وكأننا نتابع مسلسلا كرتونيا!!


واصلنا حياتنا كالمعتاد ولم تستوقفنا عديد المشاهد المؤلمة؛ مشاهد الأسرى القابعين في السجون، ومشاهد المشردين في الجبال، ومشاهد الغارقين في عرض البحر.


لا مناص من تناسي ما كان آنيا، لكن وحال انقشاع الأزمة على خير-والأمل يحدونا قريبا-، نتطلع لأن تكون هناك إعادة نظر، لا في الأولويات فقط، بل وفي طريقة تفكيرنا، وفي المنظومة التي تحكمنا، وفي كل ما يرتبط بقدرتنا على بلورة جهد موجه لإغاثة من ينتظرون موقفا إنسانيا ينتصر للعدالة.


هي فرصة ليعود الاهتمام للتعليم وللصحة، ولمكونات الكرامة الاجتماعية لكل الفئات، وهذا أقل ما يمكن التعويل عليه، فقد كشفت الأزمة عيوبا حاولنا التستر عليها عقودا، لتأتي " كورونا" وتلزمنا  باستعادة ما  أضعناه من إنسانيتنا ومن مسلتزمات العقد الاجتماعي بل العقد الإنساني في أروع تجلياته.


هي فرصة لفتح نقاش معمّق ومتواصل حيال الكثير من المجالات، طبعا نتمنى انتهاء المرحلة الراهنة، لكن على أن نبدأ حتى خلالها في إعادة تقييم مجمل ما يرتبط بالقضايا السابقة من تفاصيل.


اشترك في القائمة البريدية