شطحات فيروسية: الكورونا بين التعلم والتعليم

بقلم رفعت صباح


 

فجأة وجدنا أنفسنا أمام مشهد غير متوقع، حياتيا وعلى الصعد كلها.


تعليميا ... هبّ كثير من الناس لإنقاذ الوضع التعليمي، إذ تملكّتهم المخاوف من تدهور الأمور في السياق التعليمي، وهذا بطبيعة الحال في قطاعيْ التعليم العام، والعالي، وفي معظم دول المعمورة التي باتت قطاعاتها التعليمية متلقيّة للحدث لا صانعة له، وسط حديث لكثيرين عن احتمال خسارة سنة دراسية، مع أن الأمر في جوهره يشكل تهديدا بخسران حياة بمجملها، والحقيقة أن الأمور لا تقاس بمنطق ربح أو خسارة، بقدر ما تستوجب تقييما لمنهجيات سادت في الوضع الاعتيادي، هل كنا في خانة الكسب مثلا حين كان الطلبة أسرى لحشو المعلومات؟ وما مدى استفادة الطلبة مما تلقوه من معرفة سابقا في المواقف الحياتية التي أوجدتها الأزمة؟ وحقيقة لا أعرف إلى أي حد استطاع الطلبة مثلا تطويع مادة البيولوجيا في الأزمة الحالية وما مدى الاستفادة منها، ولا أعرف إن دارت حوارات بين الطلبة حول ذلك,او استغل المعلمون هذه الفرصة لحث الطلبة على التفكير والبحث والتأمل بالوضع الحالي .


ورغم قتامة المشهد الحالي نتيجة غموض ما هو قادم، إلا إنه يمكنني– وكمتابع- القول إن ما يحدث أخرج من داخل بعض الناس أفضل ما لديهم، فقد تزايد منحى الاعتماد على الذات في وتحديدا في عملية التعلم، وبتنا نشهد زيادة اعتماد الناس على خبراتها وتجربتها والأدوات المتاحة لها، فمثلا لاحظت أن معظم جيراننا شرعوا في متابعة طريقة بعض الأكلات التي طالما كانوا يشترونها جاهزة مثل: الفلافل، والكنافة، والحمص. حتى ان احدهم عبر ممازحا ان المطاعم ستخسر بعدما تعلم الناس وتفننوا في صناعة المأكولات والحلويات .


 وقد حدثني صديقي أنه تم بنجاح عمل فلافل وكنافة بعد عدّة محاولات فاشلة، وبدأ يشرح لي أين أخطأ، وكيف توصل إلى عملية الإنجاز، ورأيته فرحا جدا بما حققه، وكان يشرح لي بالتفصيل كيف يمكنني  صنع كنافة الجبن بجودة تضاهي النابلسيين، فيما ذكر جار آخر أن أولاده يحاولون مواظبون على محاولة الغوص في تقنيات التكنولوجيا، وأنهم يحاولون تعليمه كيف يمكن له أن يستخدمها بطريقة فعالة، وأن هناك تقنيات لم يكن ليعرفها لولا هذه الأزمة. وحتى زملائي في بعض  المؤسسات الدولية والمحلية  يقولون إنهم بذءوا عملية التعلم في آليات استخدام التقنيات التكنولوجية لمساعدتهم على عملية التواصل، ومن أجل ذالك اضطروا لقراءة كثير من المعلومات والمراسلات التي تشرح لهم ذلك، وبات الاعتماد على الذات في عملية التعلم ضرورة.


من ناحية ثانية وجدت ان عمليات التشبيك والتنسيق بين الناس واسعة  وقوية واستخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي منقطعة النظير رغبة منهم اما لزيادة معرفتهم بما يدور من حولهم او باكتساب خبرات الاخرين في مواجهة تداعيات الازمة. فالناس ليسوا محتاجين ألان لمن يدربهم على أسس التواصل والاتصال فهم يخلقونها بذاتهم ويطورونها حسب احتياجاتهم بل ابعد من ذالك هم يستخدمون التشبيك لمساعدة الأخرين ومساندتهم .


ما أود قوله هنا أن الأزمة الحالية دفعت الجميع سواء أكانوا طلابا أو معلمين أو أولياء أمور، أو  شركات ومؤسسات لتطوير أدوات التعلم الذاتي، وهذا مرده للحاجة، وهو ما يتطابق وما قلناه مرارا من أن عملية التعلم حين تنطلق من احتياجات المتعلم ستثمر، حالها تماما حال الحوار الذي ينطلق من احتياج الناس للمعرفة ويكون  هدفه الوصول إلى الحقيقة.


لعل أبرز ما أفرزه التفكير في الأزمة وخلالها، أنه أدخل الناس في عملية تفكير- أو بالأحرى تفاكر- دائمة،  وكما يقولون القلق أساس الحضارة، فقلق الناس وخوفهم من المرض، والعازة ، والمجهول؛ جعلهم في حالة تفكير مستمر، وفي حالة متابعة يمكن تلمس مؤشراتها من مواظبتهم على متابعة الأخبار، وتحليلها، وتصنيفها، وتمحيصها لانتقاء  ما يعتقدون أنه مفيد لهم، صحيح أن الخوف سيطر عليهم في بداية المشهد حتى باتوا في حيرة من أمرهم، لكن سرعان دخلوا عملية  تعلم وتفكير، حتى كثرة من المثقفين الذين كانوا قد دخلوا مرحلة الإحباط، باتوا أكثر اهتماما بما بكتب ليتابعوه، ولا يأخذون الأمور على عواهنها، فقد استعادوا عافيتهم من عمليات التفكير والعودة للماضي، ومقارنة الحاضر بالماضي ليستطيعوا وضع تصورات للمستقبل.


 عمليات الحوار بين الناس  لا ضرر منها، حتى لو كانت  عبثية أحيانا، لان  الاستمرار في عمليات التفكير يقود الناس إلى تهذيب ما يحصلون عليه من معارف ومعلومات، كما أن الناس بدأت تتروى فيما تقوله، وشرع كثير من الناشطين في تأمل أوضاع الناس قبل الأزمة وخلالها ؛ فلم يكن سهلا إقناع الناس بعدم صواب موقف بعض المؤسسات المالية الدولية مثلا، لكن حاليا هناك تأمل جدي من معظم الناس في مواقف هذه المؤسسات، بل بات أكثر الناس قربا من مناقشة السياسات الحكومية، ودور الدولة في حياتهم، وكيفية حماية حقوقهم، وخلاصة الأمر أن التأمل والتفكير هو سيد الموقف الآن.


مما عززته الأزمة أيضا : المتابعة، فقد لفت انتباهي متابعة الناس لما يدور في العالم من نتائج وأحداث جراء كورونا، وهي قد تكون صفة السواد الأعظم من الناس الذين باتوا يمررون لبعضهم البعض كل ما تقع عليه أعينهم وما يصل لآذانهم من أحداث، وهذا التواصل عزز شيئا فشيئا حالة التضامن بين الناس، فتمرير الأحداث الجارية في إيطاليا وإسبانيا وإيران وحتى أمريكا، جعل كثيرا من الناس تتعاطف مع مواطني  هذه الدول، حتى أن البعض أرسل رسائل تضامنية، وبدأ الناس تسأل عن بعضها البعض، وهو أمر مهم جدا لأنه يعيد للناس تضامنها الذي بدأت تفقده، وهو ما سيؤسس لحالة تضامن ستدوم لسنوات وسنوات، وسيقلل من حالة الاحتقان التي عايشناها قبل كورونا.


لذا، فإن من الأهمية بمكان التنبه إلى أن التفكير بأنماط التعلم التي ظهرت خلال هذه الأزمة مهم جدا، وهو ما يدعونا إلى مراجعة كل أنماط التعلم في المنظومة التعليمية من المنهاج التدريسي الذي اعتمد، أو آليات التعليم والتقييم، ولعلها فرصة سانحة لإصلاح مجمل منظومة التعليم والتعلم، وسيكون من المؤسف عدم استخلاص العبر في حال تجاوزنا هذه الأزمة بسلام، واستخلاص العبر يجب أن يطال الأفراد، والقائمين على الأنظمة التعليمية على حد سواء.


 لقد أجبرت الأزمة الراهنة المؤسسات الحكومية وغير الحكومية على الدخول في عملية تعلم وتأمل وتفكير، فهي اعتادت على نمط معين من العمل، لكنها بادرت لبحث وتجريب آليات للتواصل مع فئاتها وأعضائها، وباتت أكثر تركيزا فيما يختص بأفضل الطرق لتوصيل وتحقيق أهدافها


عززت الأزمة روح التأمل، وفرضت على الجميع الانتصار لروح التنسيق والتكامل عبر تبادل الخبرات، وهو ما من شأنه التقليل من العقبات.


كشفت الأزمة لكثير من المؤسسات الثغرات التي تعتريها والنقص في الخبرات وطرائق التفكير، وأولويات الإدارة، ووسائل التحفيز والدافعية، كما برهنت أن الإمكانيات وحدها دون أفكار خلاقة لا تساوي شيئا، إذا لم توجد لديها خطة للتعامل مع الأزمات.


 قد تكون القراءة ملاذا معززا للتفكر، والأزمة تكشف لنا يوميا جوانب لم نكن نوليها الاهتمام الكافي، فالسياقات الحياتية تتطلب تعلما، والممارسات تتطلب تأملا، والأزمات تتطلب تفكيرا غير نمطي، هذا أبرز ما عكسته الأزمة من معطيات تستوجب منا محاكمة الكثير مما كنا نتبناه، هل الخلل في الخطط النظرية؟ أم في العقلية التي تحكمنا؟ أم في الاثنتين معا؟ تساؤل ورغم أنه مبدوء ب" هل" لكنه لا يصلح أنه نجيب عنه ب "نعم" أو "لا"، فأول درس مستفاد أننا يجب أن نتجاوز الإجابة من أجل الإجابة، فالتساؤلات كثيرة، فهل نجيب عنها بطريقة إبداعية؟ أم نواصل الدوران في حلقة مفرغة من حلقات البحث؟ عفوا من حلقات الدوران حول أنفسنا، لأننا اكتشفنا أن البحث لم يكن هو الآخر يحظى بما يجب أن يحظى به من اهتمام.


الفوضى أحيانا توصف بأنها خلاقّة، والحال ذاته ينطبق على الأزمة، فهل تكون " أزمة خلاقّة"؟


اشترك في القائمة البريدية