التضامن علاجنا واللقاح العدالة  

بقلم رفعت صباح


الأزمة الحالية في ظل المشهد الكوروني؛ أزمة مفاجئة، إلا أن مجيئها بشكل مفاجئ لا يعفينا من المسؤولية، فنحن مطالبون بالمصارحة والمكاشفة، والانتصار للنهج العملي والواقعية لا الاستعراضي،  لأن أبرز ما تتطلبه الأزمة هو الواقعية؛ واقعية الطرح، وواقعية التدخلات، ودون ذلك سنظل ندور في حلقة مفرغة.


الأزمة متدحرجة، ولا أحد يستطيع التنبؤ بما ستؤول إليه، كما أن انعكاسات الأزمة لن تقتصر على المدى القريب، ومن الطبيعي ان هناك  انعكاسات   ستتواصل، ولا نبالغ إذا ما قلنا إن مرحلة "بعد"، ستحضر أيضا، فبعد أن شهدنا ما بعد التاريخ، وما بعد العولمة، سنكون مجبرين على التعامل مع مرحلة ما بعد الكورونا.


تأتي التدخلات في ظل الأزمات لتعمّق أحيانا ما هو موجود أصلا من غياب لعدالة الفرص، وللأسف قد تتزايد الفجوة بسبب ما تتسم به الخطوات العلاجية من عشوائية وتسرع، وهناك ضرورة للبحث في الأسباب لا التوقف فقط عند النتائج، فالحلول الجزئية تسهم في ترحيل الأزمات لا حلها، ومع كل تدخل وجب دوما استحضار سؤال ملح – قد لا يكون هذا أوانه- وهو : ماذا لو عادت الأزمة مستقبلا؟ وما المطلوب لتدارك ما يرافق الأداء من هفوات؟


كما أن غياب أبرز وأهم ما نحتاجه وهو التضامن يضعنا على المحك أمام ما أفرزته أنظمتنا التربوية من مخرجات، فانعدام التضامن هو الأزمة الحقيقية التي كشفت عنها الأزمة، والأنظمة التربوية التي جاءت الأزمة لتقيمها من منظور غير مرئي بفعل فيروس غير مرئي وضعتنا أمام تساؤلات برسم الغرابة عن جدوى ما تناولناه في مناهجنا من حديث نظري مجرد عن التعاون والتكافل والتعاضد مع أننا قد نكون حصلنا على علامات مرتفعة في الاختبارات التي تضمنت أسئلة عن تلك المعارف، لكننا في حقيقة الأمر بحاجة إلى جوهر الأمر، إلى المهارة والقيمة، إلى الممارسة والسلوك، فالتضامن كفيل بتحقيق العدالة، والعدالة هو وحدها ضمانة التأسيس للتضامن، ففي ظل الشعور بعدم العدالة يستحيل انخراط الناس في جهد موجه للتضامن، قد تبدو التعبيرات فلسفية لكنها في واقع الحال تعبير عن أبسط البديهيات.


مجتمعات كانت تُصنّف حتى قبل الأزمة بأنها راقية، ومتقدمة، وتنعم بوحدة، سرعان ما تكشفت الحقائق لتعاني من كونها وحيدة لا تنعم بالوحدة، وكل التصنيفات ما لم تؤسس لروح التضامن تصنيفات تفقد بريقها، بل هي جسد بلا روح،  وهذا يتطلب منا تعزيز المساءلة لكل القائمين على الأنظمة التعليمية، فقد توقعنا الفشل يوما ما في اختبار، لا الفشل في أول اختبار.


عذرا لهذه المصارحة، ولا يمكن قبول البدء في التحدث عن إنجازات، لأن المشكلة تتفاقم، ولأن الكثيرين منا لم تكن لديهم خطط متكاملة للطوارئ، وهنا يجب الوقوف عند مسؤولياتنا وأول موقف مسئول هو أن نكون علميين، محددين، مباشرين، فالأزمة ليست مجالا لاستعراض إنجازات قد يكون من الصعب تحقيقها في ظل الأزمة.


      ماذا نريد؟ وما المطلوب؟ هذا الذي يجب أن نبدأ في نقاشه، وهنا أستحضر النقاط الآتية:




  • نحن أحوج ما نكون إلى استحضار الحكمة في التعليم، فعلى المستوى الفردي، فإن أكثر ما يحتاجه الطلبة والمعلمون هو فهم ذواتهم، وفهم سلوكهم، وإلى تبصيرهم بالخطر المحدق، وهم أحوج ما يكونون إلى دفعة معنوية من الدعم النفسي الاجتماعي ليستطيعوا فهم دواخلهم، وتحديد نقاط ضعفهم وقوتهم.


أما على المستوى المؤسساتي، فالمؤسسات بحاجة إلى التأمل في أوضاعها للتمكن من استعادة التوازن وضبط إيقاع عملها، لتتمكن من التحرك خطوة إلى الأمام، والقيام بتدخلات مدروسة وبشكل وازن ينتصر للحكمة المتمثلة في إستراتيجيات تربط المحتوى التعليمي بمحتوى الأزمة التي نعيشها، ونحن بحاجة إلى البحث عن آليات وأنماط تعلمية تساعد الطلبة على استثمار ما تعلموه، إذ لا نحتاج -ولا ضرورة- لإنهاء المنهاج، هي فترة تتطلب لململمة الجهود والتركيز على المفاهيم التي تعزز البناء التراكمي، وهو الوقت الذي يتطلب قيام المدرسين والطلبة بربط كل ما أخذوه، فليبادر معلمو اللغات مثلا إلى تطوير قدرات الطلبة بكتابة موضوعات عن أحاسيسهم وعن مخاوفهم بطريقة تراعي النواحي الأسلوبية واللغوية  والتركيبية، وليكن تقييم المدرس بناء على هذا، فهذه الكفايات التي نريد،  وهذا ما يجب على التعليم المستقبلي أخذه بعين الاعتبار، حتى يمتلك القدرة على تقييم الكفايات، وهو ما يقتضي تحسين القدرات وتطوير المهارات وغيرها مما يجب أن نتعلم إتقانه خلال تعاملنا مع الطلبة




  • النقطة الثانية ترتبط بما سلطت عليه الأزمة الضوء وهو التضامن، فقد أثبتت هذه الأزمة وجود إشكالية في تعزيز مفهوم التضامن، كقيمة يمكن الاستثمار فيها عند الضرورة، وقد حان الوقت- وربما كان من أبرز انعكاسات هذه الأزمة-لتجاوز ما دأبت عليه أنظمة التعليم من التعامل مع منظومة القيم بهامشية، وهي منهجية غيبّت الاهتمام بالمخرجات الاجتماعية التي تم النظر إليها باعتبارها غير ذات قيمة، ليتم تهميش كل ما يرتبط بها من جوانب ، سواء أكان ذالك في الكتب المقررة أو حتى في المسلكيات، وتمت برمجة المدرسين للتركيز على دورهم الأكاديمي دون أدنى جهد للتركيز على دورهم في البناء والتغيير الاجتماعي، وهو  ما وجد انعكاساته في دور سلبي للمعلمين الذين تقوقعوا في دائرة العطاء الأكاديمي والبناء المعرفي، وغيب دورهم كفاعلين مجتمعيين، وها نحن ندفع ثمن ذلك، بوجود حالة من ارتداد  بعض المدرسين إلى مربعهم الشخصي، وضعف الروح لديهم، وضعف انتمائهم، وهو نكوص ليس مستغربا في ظل ما شهدناه من التعاطي مع بعض الأمور، مثل التربية المدنية التي تم التعامل معها من منطلق التشكيك لدرجة وصلت حد ّقيام البعض  بإلغاء مادة المواطنة، أو التربية المدنية واستبدالها بمكونات موغلة في المعارف النظرية، وووصل الأمر بالبعض إلى حد تطوير أساليب تقييم المخرجات الأكاديمية ووضع مؤشرات لها دون الانتباه إلى أن ما يتعلمه الطلبة إنْ لم يجد له انعكاس في الإطار الاجتماعي، فلن يكون له أثر، فالتضامن كمفهوم أحد أهم  ركائز المواطنة، ولذا فنحن بحاجة إلى إعادة النظر في دور المنظومة التعليمية ودورها في تعزيز مفهوم التضامن كنهج وسلوك لا كتعريف أصم يتم استحضاره للحصول على علامة في الامتحان ثم يتم تغييبه في أبسط صور التعامل الاجتماعي، لنكون بذلك قد جعلنا من نظامنا التعليمي معززا لانفصام الشخصية، وعامل وأد لأبسط أدوات المواطنة الفاعلة.

  • أما ثالث النقاط فهي ترتبط بنقطة سرعان ما كشفت الأزمة أنها هشّة، وأعني بها الشراكة سواء بين المجتمع المدني والحكومة، أو الشراكة داخل المجتمع المدني نفسه، فالريبة والشك وعدم الوضوح منطلقات عكست ذاتها للأسف على مجمل ما يرتبط بالأمر، ونظريا نحن شركاء مع الحكومة ولكن فعليا : أين الشراكة؟ ولعل ذكر الحكومة للمجتمع المدني يندرج في إطار رفع العتب، وتجميل المشهد ليكون النهج هو " الإشراك" لا الشراكة" لتسويق جهد الحكومة وتقديمه للمجتمع الدولي كأحد مؤشرات اجتياز قائمة رصد.


الواقع هنا- على الأقل كما كشفت عنه الأزمة-  يفرض أن نتعامل مع الشراكة بحيث نكون شركاء في إعطاء المعاني للمفاهيم والمصطلحات، وأن نكون شركاء حقيقيين في تطوير الحلول، ولذا فالشراكة تتطلب الثقة بقدراتنا في الأزمات الكبرى، فالحكومات –غالبا- لا تستطيع التعامل مع المستجدات بالديناميكية ذاتها  مثلما يتم بها تعامل المجتمع المدني- وهنا اقصد كل مكونات المجتمع المدني من حركات مجتعية ونواد  ونقابات وغيرها - أقول  القادر في معظم الأحيان على ابتكار أدواته، ولكن هذا المجتمع إن لم يكن قد تشرب منظومة قيم جمعية  مثل الثقة والتضامن والمسؤولية أساسا، فسرعان ما سيرتد إلى حالة من التفسخ والعنف والأنانية.


 رابع النقاط ترتبط بالثقة، فيجب أن نستثمر الأزمة لإعادة تجديد الثقة بقدرات الناس والمواطنين، فهم قادرون على تطوير أدواتهم وإيجاد حلول لمشاكلهم خاصة المعلمين، ففي حال إعطاء ثقة للمعلمين، وبأنهم قادرون على قيادة المرحة، فبالتأكيد سيبدعون، وقد حان الوقت لنرفع سقف توقعاتنا مما يمكن أن يقدمه معلمونا، والدليل أن مبادرات بعض المعلمين في الأزمة سبقت أداء النظام الرسمي، وهذا نابع من لا مركزية التعامل، ومن وجود روح باقية لدى عدد من المعلمين الذين لم تنطفئ لديهم جذوة المبادرة وروح الإبداع.


في الحالات كلها، ثمة ما يمكن البناء عليه والانطلاق منه لننجز، أمّا أن ننشغل في التباهي بإنجازات مزعومة في الوقت الذي لا زالت فيه الأزمة تتسع فإن هذا قمة الاستعجال، واما ان  الوقت حان  لاستبدال نهج المحاصصة بنهج التكامل، ومغادرة مربع الحديث عن أهمية المواطنة للانتصار لروح المواطنة ولما تتضمنه من ممارسات وقيم، وإلا وجدنا أنفسنا دوما وفي أتون أي أزمة نتخبط منذ باديتها.


ليس عيبا أن تكشف الأزمات عيوبنا، لكن العيب ألا  نستخلص العبر والدروس، وأول المطلوب التأمل والمراجعة، والتأمل الذاتي أولا وأخيرا، فنحن إذا لم نقتنع أن هناك الكثير مما يجب عمله، فلن نغادر مربع المبالغة النظرية.


 الأمور لا ترتبط فقط بالجرأة كما يظن الكثيرون، بل بالرغبة والوضوح، والعلمية والمهنية، أفما حان الوقت لمراجعة نوايانا قبل أدواتنا؟!


اشترك في القائمة البريدية