في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة والحصار الخانق المفروض على قطاع غزة، بات سكان القطاع، لا سيما الأطفال والنساء، يواجهون كارثة غذائية غير مسبوقة تهدد حياتهم وتترك آثارًا كارثية على صحتهم الجسدية والنفسية. لقد تحوّل الجوع إلى مشهد يومي يخيّم على كل بيت في غزة، حيث لم تعد المعاناة مقتصرة على انعدام الأمن الغذائي، بل تعدّتها إلى تسجيل وفيات مأساوية بسبب الجوع وسوء التغذية والجفاف.
تشهد مراكز جمعية العودة الصحية والمجتمعية، منذ أسابيع، توافد أعداد متزايدة من الأطفال في حالة هزال شديد وضعف عام مرعب. وقد سجّلت عيادة التغذية التابعة لمستشفى العودة في مخيم النصيرات ارتفاعًا حادًا في عدد الحالات التي تحتاج متابعة غذائية خاصة، إذ بلغ عدد الأطفال الذين تلقوا خدمات المتابعة خلال الفترة من يناير حتى منتصف مارس 2025 نحو 7052 حالة، في حين قفز هذا الرقم ليصل إلى 20,870 حالة جديدة خلال الفترة من منتصف مارس حتى نهاية يونيو، أي بزيادة تقارب 195% خلال ثلاثة أشهر فقط، بعد إحكام الحصار وإغلاق المعابر بشكل مشدد.
معظم هؤلاء الأطفال يعانون من نقص حاد في العناصر الغذائية الأساسية، وقد أصبح العلاج الغذائي التكميلي، الذي كان شحيحًا في الأصل، يوشك على النفاد التام، ويُستخدم حاليًا فقط للحالات الأشد خطرًا.
ولم يعد الأمر مقتصرًا على الأطفال، فقد توسعت رقعة الجوع لتشمل مختلف الفئات العمرية، مع تدهور مخيف في صحة النساء الحوامل والمرضعات، اللواتي يعانين من فقر دم حاد وإرهاق دائم بفعل غياب المكملات الغذائية الضرورية، وعلى رأسها الحديد وحمض الفوليك.
لقد أسهم الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن سيطر على أكثر من 75% من مساحة قطاع غزة، في تبديد آخر ما تبقى من المساحات الزراعية التي كانت تُشكّل المورد الأخير للمحاصيل المحلية، والتي وفّرت، رغم شُحّها، بعض الخيارات الطبيعية للتغذية.
ومع التوغلات العسكرية المستمرة وتجريف الأراضي واستهداف البنية الزراعية، فقد الأهالي ما تبقى لهم من قدرة على زراعة الأرض أو جني ثمارها، مما أغلق الباب أمام الحد الأدنى من أي أمن غذائي ذاتي. ولم يتوقف الأمر عند حدّ انعدام خيارات الطعام، بل تعدّاه إلى تعطيش السكان، إذ يعاني القطاع من شحّ حاد في مصادر المياه الصالحة للشرب والاستخدام الصحي، الأمر الذي يُضاعف المخاطر الصحية ويُسهّل تفشي الأمراض المعدية.
في هذا السياق، فإن الجوع في غزة لم يعد حالة استثنائية، بل أصبح ظاهرة عامة تتفشى في أوساط النازحين والمقيمين على حدّ سواء. وفي ظل غياب الغذاء والرعاية، تتفاقم الأمراض الوبائية وتنهار الحصانة الصحية الجماعية، مما يفتح الباب أمام موجة أمراض يصعب السيطرة عليها، وخاصة بين الأطفال الذين لا يقوون على مقاومة أبسط الالتهابات بسبب أجسادهم المنهكة.
التقارير الأممية وشهادات المنظمات الإنسانية تؤكد هذه الصورة القاتمة. فقد وُثق إصابة أكثر 900 ألف طفل يعانون من درجات متفاوتة من سوء التغذية، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل يعانون من سوء تغذية حاد، وهو رقم مرعب يسجل ارتفاعًا مستمرًا.
كما حذرت منظمة أطباء بلا حدود من "انفجار وشيك لأزمة مجاعة"، بعد تضاعف عدد حالات سوء التغذية أربع مرات في أقل من شهرين في أحد مراكزها. وفي تقارير رسمية فلسطينية، سُجلت وفاة 92 طفلًا بسبب الجوع، فيما ارتفع عدد ضحايا التجويع إلى 162 شخصًا. كما وُلد أكثر من 1600 طفل بوزن دون الطبيعي، وسُجلت مئات الحالات من الولادات المبكرة والتشوهات الخلقية، في مشهد يختصر حجم المأساة الصحية والإنسانية.
إن هذا الانهيار السريع في الأمن الغذائي ينذر بمأساة أكبر ما لم يُكسر الحصار فورًا، وتُفتح المعابر لإدخال المساعدات الغذائية والطبية دون قيود. فالجوع لا ينتظر، وسوء التغذية إذا ما ترافق مع المرض، يصنع حلقة قاتلة لا ينجو منها الضعفاء، وهم الغالبية في قطاع غزة اليوم.
إننا في جمعية العودة الصحية والمجتمعية نوجه هذا النداء باسم الجياع والمنهكين والمهددين بالموت بصمت، ونطالب بتدخل إنساني فوري وعاجل لإنقاذ أرواح عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والمرضى، عبر ضمان تدفق الغذاء، ودعم القطاع الصحي، وتمكين المؤسسات الإنسانية من تنفيذ استجابات طارئة وشاملة، قبل أن يتحول الجوع إلى مجاعة جماعية مروّعة.
ويأتي في مقدمة هذه الاستجابة ضرورة تولي مؤسسات الأمم المتحدة، وبشكل عاجل وطارئ، مسؤولية إدخال كل المعونات والمستلزمات المطلوبة لتقديم الاستجابة الإنسانية الفورية، ووقف هذا الخطر المحدق بحياة مئات الآلاف من المجوعين القابعين تحت أتون حرب الإبادة منذ أكثر من 22 شهرًا. كما نُشدّد على أن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال فتح غير مشروط للممرات الآمنة، والسماح بوصول الإمدادات الغذائية والدوائية والإنسانية الكافية لوقف حالة الانهيار الإنساني، بما يضمن وصول المساعدات إلى مستحقيها بكرامة وأمان، بعيدًا عن أي تدخل أو عرقلة أو تسييس.
نناشد المجتمع الدولي، ووكالات الأمم المتحدة، والمنظمات الصحية والإنسانية في العالم، ألا يصمتوا أمام الجوع القاتل الذي يفتك بأبناء غزة. أنقذوا الأرواح، الآن، قبل أن يفوت الأوان.