في خيمة مهترئة داخل أحد مخيمات النزوح قرب دوار 17 شمال غرب مدينة غزة، تعيش رهف (16 عامًا) وشقيقها فارس (14 عامًا) مأساة يومية صامتة وسط ركام الحرب والحصار. الطفلان يعانيان من الشلل الدماغي منذ الولادة، ويعتمدان بشكل كامل على والدهما إبراهيم الزعيم، الذي لا يفارقهما لحظة منذ تهدم منزلهما ولجوئهم إلى المخيم بعد العدوان الإسرائيلي.
يقول إبراهيم بصوت متعب وعينين غائرتين من السهر:
"رهف وفارس لا يستطيعان الجلوس أو الحركة أو الكلام. أنا أُطعمهم بيدي، وأُبدل لهم الحفاظات، وأحملهم على كتفي عند الحاجة. نعيش هنا في هذه الخيمة دون كهرباء أو ماء، لا حمام ولا خصوصية، ولا أي مؤسسة تقدم لنا يد العون."
يتوقف الأب لحظة ليلتقط أنفاسه ثم يضيف:
"في الأيام الأولى من النزوح لم يكن لدينا طعام كافٍ. الحليب الذي يعتمد عليه فارس غير متوفر، والأدوية توقفت منذ شهور. حاولت التواصل مع جمعيات ومؤسسات، لكن الجميع إما مدمر أو عاجز. أشعر أن أطفالي يُتركون ليموتوا ببطء، بصمت وبدون أن يسمعهم أحد."
لا يخفي إبراهيم خوفه من الشتاء القادم ولا حرارة الصيف الخانقة، إذ يقول:
"الطفلان لا يحتملان الحرّ ولا البرد، ولا نستطيع نقلهم أو حمايتهم. لا أملك كرسيًا متحركًا، ولا جهازًا طبيًا واحدًا يساعدهم على التنفس أو النوم أو التغذية. نعيش من صدقات الناس، وإذا مرض أحدهما، لا أجد حتى مواصلات لأخذه إلى مكان ما."
الواقع الذي تعيشه هذه الأسرة ليس استثناءً، بل جزء من كارثة ممتدة طالت مئات الأطفال المصابين بالشلل الدماغي في قطاع غزة، والذين فُقدوا في زحمة القصف والنزوح والانهيار التام في الخدمات الطبية والتعليمية والاجتماعية.
واقع مأساوي وأرقام مؤلمة
يستعرض مصطفى عابد، مدير برنامج التأهيل في الإغاثة الطبية الفلسطينية، وضع أطفال الشلل الدماغي في غزة قائلاً:
"تعرض هؤلاء الأطفال، الذين يحتاجون إلى رعاية طبية وتأهيلية مستمرة، لمحنة إنسانية غير مسبوقة نتيجة العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة لأكثر من سنة وثمانية أشهر."
ويضيف عابد:
"انهيار النظام الصحي بشكل كامل أدى إلى توقف معظم المراكز الطبية والتأهيلية التي تقدم خدمات لأطفال الشلل الدماغي. المصحات التي كانت توفر جلسات العلاج الطبيعي، النطق، التأهيل الحركي والسلوكي أغلقت أبوابها بسبب القصف أو فقدان الكوادر الطبية."
ويؤكد عابد أن نقص الأدوية والمستلزمات الطبية، بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء والمياه، يُفاقم معاناة هذه الفئة، حيث يحتاج هؤلاء الأطفال إلى غذاء خاص، أدوية للتحكم بالعضلات، وأجهزة طبية مساعدة، كلها شبه منعدمة.
"الكثير من الأطفال يعانون سوء التغذية، جفاف الحلق، ونوبات تشنج مستمرة، ما يتطلب تدخلاً طبياً عاجلاً، لكنه مفقود تمامًا."
يشير عابد كذلك إلى فقدان عدد من الأخصائيين الطبيين نتيجة القصف، وهروب آخرين بسبب الأوضاع الأمنية، مما يفاقم العجز في تقديم العلاج والرعاية.
ويتابع:
"العائلات تقف وحيدة في مواجهة أعباء هذه المسؤولية، خاصة مع انعدام الدعم الحكومي والمؤسساتي، وفقدان مصادر الدخل والموارد."
ويختم عابد بتعداد الاحتياجات الملحة لهذه الفئة:
- توفير الرعاية الطبية والتأهيلية المستمرة.
- تأمين الأدوية والمستلزمات الطبية.
- توفير الغذاء المناسب للأطفال ذوي الشلل الدماغي.
- دعم نفسي واجتماعي للأسر.
- إنشاء مراكز تأهيل متنقلة وآمنة.
- تأمين مياه نظيفة وكهرباء مستمرة تُمكن من تشغيل الأجهزة الطبية.
كما أشار عابد إلى أن الحرب وما تبعها من دمار ونزوح متكرر أثّرت بشكل مباشر على البيئة النفسية لهؤلاء الأطفال، فبعضهم بات يُظهر علامات اضطراب سلوكي، واضطراب في النوم، وقلق دائم.
وأكد عابد أن هناك قصورًا شديدًا في التعامل الإعلامي والمؤسساتي مع هذه الفئة، فهم غير مرئيين، واحتياجاتهم لا تُدرج ضمن أولويات التدخلات الإنسانية رغم هشاشة أوضاعهم.
وطالب بضرورة إدراجهم ضمن الخطط الإنسانية والإغاثية العاجلة، وتوفير حماية خاصة لهم بموجب القانون الدولي والاتفاقيات المتعلقة بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.
ففي حين تنص المادة (11) من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة على أن: "تتعهد الدول الأطراف، وفقاً لمسؤولياتها الواردة في القانون الدولي، بما فيها القانون الإنساني الدولي، باتخاذ كافة التدابير الممكنة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يوجدون في حالات تتسم بالخطورة، بما في ذلك حالات النزاع المسلح والطوارئ الإنسانية والكوارث الطبيعية."،
يظل أطفال الشلل الدماغي في غزة منسيين خلف ركام البيوت والخيام المتهالكة، حيث الصمت الدولي يُجهز على ما تبقى من صراخهم.
في ظل هذه الظروف الصعبة، يبقى أطفال الشلل الدماغي في غزة أسرى مأساة الحرب والصمت الدولي، يواجهون مصيرًا مجهولًا وسط غياب الحلول الإنسانية والحقوقية.