واقع تحلية المياه في قطاع غزة بين التحديات والحلول


الكاتب: محمود إبراهيم شتات

المصدر: مجلة آفاق البيئة والتنمية

لا شك أن مشكلة المياه في قطاع غزة مركبة ومعقدة، تتداخل فيها الظروف السياسة والاحتلال الاسرائيلي المتواصل منذ 56 عامًا، فضلًا عن الحصار الاسرائيلي لأكثر من 16 عامًا، والانقسام الفلسطيني، والازدياد المتسارع في عدد السكان ومحدودية الموارد. كل هذه الأسباب أدت الي التدهور الحاد في قطاع المياه وأخرّت تنفيذ مشاريع عدة، وعلى رأسها مشروع إنشاء محطة تحلية مياه البحر المركزية في غزة. ومع أن التحلية تتطلب الكثير من الطاقة، فإنه يمكن الاعتماد إلى حد كبير على استخدام مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية والرياح، وهي خطوة باتجاه جعل هذا الحل أكثر استدامة فيطول أمده؛ لندرة المياه في المناطق الساحلية، ويمكن أن تؤدي الاستثمارات في تكنولوجيا وبنية تحلية المياه إلى تحفيز "النمو" الاقتصادي وخلق فرص العمل.

تعد تحلية المياه من الحلول غير التقليدية لتوفير المياه العذبة لملايين الناس في العالم، والذين يقطنون في المناطق الساحلية والتي تعاني ندرة المياه العذبة مثل الكثير من مناطق الشرق الأوسط ودول حوض البحر المتوسط وخصوصًا قطاع غزة في فلسطين، وليس جديدًا، أن قطاع المياه أحد أكثر قطاعات الخدمات تضررًا في الضفة والقطاع، نتيجة لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي المباشرة وغير المباشرة على مصادر المياه منذ احتلاله الأراضي الفلسطينية لا سيما غزة، سواء المصادر الجوفية أم السطحية.

 ويوجد في القطاع ثلاثة أودية رئيسة هي وادي غزة في وسط القطاع، ووادي بيت حانون في الشمال، ووادي السلقا في الجنوب، حيث عمل الاحتلال الاسرائيلي على منع وتحويل تدفقها الطبيعي من داخل الخط الأخضر وخصوصًا من تلال الخليل، لأغراض إسرائيلية، مما تسبّب في جفافها.

 وحالت هذه المعطيات بين الفلسطينيين ووصولهم لمصادر المياه، وفاقمت المشكلات المتصلة بالمياه في مختلف الأراضي الفلسطينية، وتحديداً في قطاع غزة.

يعاني قطاع غزة كغيره من مناطق بيئة البحر الأبيض المتوسط نقصًا شديدًا في المياه المتوفرة، والمشكلة الأخطر تتصل بكمية المياه ونوعيتها.

تعد المياه الجوفية هي المصدر الوحيد للمياه، في حين أن الزراعة هي المستهلك الرئيس للمياه في قطاع غزة بأكثر من 55٪ من إجمالي المياه الجوفية المستخرجة، بينما يُستخدم الباقي لإمدادات المياه المنزلية وللأغراض الصناعية، علاوة على ذلك، يتلّقى الخزان الجوفي الساحلي في قطاع غزة معدل إعادة شحن وترشيح سنوي يراوح بين 55 و 60 مليون متر مكعب سنويًا، بالدرجة الأولى من الأمطار، إضافة إلى 30 مليون متر مكعب/ سنة من تدفق المياه الجوفية الجانبية والتسربات، بينما تبلغ معدلات السحب المكثف السنوي من الخزان الجوفي حوالي 200 مليون متر مكعب، نتيجة لذلك، فإن العجز التراكمي السنوي للمياه يراوح بين 90 و110 مليون متر مكعب في السنة.

وفي الوقت ذاته، تتدهور جودة المياه الجوفية بسرعة مقارنة بمعايير منظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية لمياه الشرب والاستخدام الزراعي.

 

 (الشكل 1) يوضح ارتفاع ملوحة تركيزات الكلوريد التي يجب ألا تتجاوز 250 ملغم/ لتر، و1000 ملغم/ لتر لمياه الشرب والري على التوالي.

 

 

Figure 1: Water quality of ground water in the Gaza strip (Nitrate and Chloride)

ووفقًا لآخر الإحصاءات الصادرة عن مصلحة مياه بلديات الساحل، بلغ إجمالي إمدادات المياه للاستخدام المنزلي حوالي 98 مليون متر مكعب في عام 2022، تُستخرج بواسطة 288 بئر مياه بلدية.

 بينما تُنتج مياه الشرب بواسطة 296 محطة تحلية خاصة وعامة (مياه مالحة ومياه البحر) موزعة على قطاع غزة، إضافة إلى 15 مليون متر مكعب من مياه الشرب التي يُحصل عليها من شركة مياه "ميكوروت" الإسرائيلية ضمن اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين و"إسرائيل".

وقد أدى الاستخراج الزائد للمياه إلى تسرب مستمر لمياه البحر إلى المياه الجوفية، ما ساهم في تدهور نوعية المياه عبر زيادة مستويات الملوحة.

ويعقّد هذه المشكلة التلوث الناجم عن الاختلال في الميزان المائي، وتلوث مصادر المياه الجوفية، وهذه السلسلة من الأحداث قد أثرّت سلبًا على جودة المياه، ما أدى إلى زيادة في مستويات الملوحة وعجز كبير في الكمية اللازمة من المياه التي يجب توفيرها لسكان قطاع غزة، ونتيجة لذلك، فإن 97% من المياه في خزان قطاع غزة الجوفي غير صالحة للشرب، حسب معايير منظمة الصحة العالمية.

هذا، وإضافة إلى ارتفاع ملوحة تركيزات أملاح الكلوريد من (500 - 3000 ملغم/ لتر) التي يجب ألا تزيد على 250 ملغم/ لتر لمياه الشرب، وكذلك ارتفاع تركيزات النترات بمستويات ملوحة عالية من ( 100– 800 مجم / لتر) خاصة في الجزء الشمالي من غزة، كما هو موضح أعلاه في خريطة جودة المياه PWA (2021).

وبذلك، فإن الطلب المحلي على المياه الصالحة للشرب يفوق إمدادات المياه، مما سيخلّف آثارًا ضارة طويلة الأمد، ويتطلب حلولاً فورية وعاجلة لمعالجة هذه المشكلات.

التحديات التي تواجه تحلية المياه في قطاع غزة

لا شك أن مشكلة المياه في قطاع غزة مركبة ومعقدة، تتداخل فيها الظروف السياسة والاحتلال الاسرائيلي المتواصل منذ 56 عامًا، إضافة إلى الحصار الاسرائيلي لأكثر من 16 عامًا، والانقسام الفلسطيني، والازدياد المتسارع في عدد السكان ومحدودية الموارد.

كل هذه الأسباب أدت إلى التدهور الحاد في قطاع المياه وأخرّت تنفيذ عدد من المشاريع، وعلى رأسها مشروع إنشاء محطة تحلية مياه البحر المركزية في غزة.

ولكن مع كل هذه التحديات والأزمات التي تعصف بقطاع غزة، كان لسلطة المياه الفلسطينية ومصلحة بلديات الساحل دور كبير وفعال في جلب وتنفيذ عدة مشاريع إستراتيجية، وإطلاق مبادرات للتخفيف من أزمة المياه وخصوصًا إنشاء محطات تحلية مياه البحر، وبعض محطات تحلية مياه الآبار الجوفية عالية الملوحة مثل محطة السلام في رفح، ومحطة السعادة في خانيونس جنوب قطاع غزة، بتمويل من المؤسسات الدولية.

إن استنزاف الخزان الجوفي تسبَّب بزحف مياه البحر المالحة للمياه الجوفية، ما أدى إلى انخفاض متسارع في جودة المياه، وعليه، تذهب الحلول الإستراتيجية لسلطة المياه الفلسطينية باتجاه تحلية مياه البحر، التي يمكن أن تساهم كثيرًا في حل مشكلة شح المياه في القطاع.

 أولاً: يمكن لتحلية المياه أن تقدم كميات هائلة من المياه الصالحة للشرب لتلبية الاحتياجات اليومية للسكان، وذلك بتقليل الاعتماد المفرط على الخزان الجوفي المستنزف.

ثانيًا: بتوفير مصدر بديل للمياه العذبة، يمكن لعملية التحلية أن تخفف الضغط على الخزان الجوفي، مما يمنحه فرصة للتجديد الطبيعي.

علاوة على ما سبق، يمكن أن يساعد الانخفاض في استخراج المياه من الخزان الجوفي على استعادة التوازن بين المياه العذبة والمياه البحرية، مما يقلل من تدفق مياه البحر إلى الخزان الجوفي.

على الجانب الآخر، تتميز المياه المحلاة بأنها تحتوي على مستويات أقل من الملوحة، ويمكن معالجتها لإزالة الملوثات الضارة، ما يؤدي إلى تحسين جودة المياه.

ومع أن التحلية تتطلب الكثير من الطاقة، فإنه يمكن أن يُعتمد إلى حد كبير على استخدام مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية والرياح، وهي خطوة باتجاه جعل هذا الحل أكثر استدامة فيطول أمده، لندرة المياه في المناطق الساحلية.

وأخيرًا، يمكن أن تؤدي الاستثمارات في تكنولوجيا وبنية تحلية المياه إلى تحفيز النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل.

 ولذلك أنشأت سلطة المياه ومصلحة مياه بلديات الساحل عدة محطات لتحلية مياه البحر على طول ساحل قطاع غزة بقدرة إنتاجية، تصل إلى حوالي 35000 متر مكعب في اليوم، وهي مقسمة على النحو التالي:

  • محطة تحلية شمال قطاع غزة في منطقة السودانية وبقدرة إنتاجية 10000 متر مكعب يوميًا، ووُقعّـت أخيرًا اتفاقية مع البنك الإسلامي للتنمية من أجل زيادة الإنتاجية لتصل إلى 12000 متر مكعب يوميًا.
  • محطة تحلية خانيونس، التي تقع على ساحل جنوب قطاع غزة، وبقدرة إنتاجية 20000 متر مكعب يوميًا.
  • محطة تحلية مياه بحر دير البلح وبقدرة إنتاجية 6000 متر مكعب يوميًا.

تلك المياه المُحلّاة المنتجة تُخلط مع مياه الآبار الجوفية لزيادة الكمية وتقليل التكلفة، لتصل الكمية النهائية إلى 75 ألف متر مكعب يوميًا، وبذلك فإن المياه الآمنة للشرب تصل لحوالي 35% من سكان القطاع، خاصة المتواجدين في المناطق الغربية من القطاع والتي تزداد فيها نسب الملوحة، حسب تقارير مصلحة المياه.


محطة تحلية مياه البحر على شاطئ جنوب قطاع غزة في محافظة خانيونس

محطات تحلية مياه البحر على شاطئ قطاع غزة

تأتي هذه الجهود المحلية والدولية للتخفيف من أزمة المياه الحادة والمتتالية علي قطاع غزة على المدى القصير والمتوسط؛ إلى حين توفير الدعم الكامل لإنشاء المحطة المركزية لتحلية مياه البحر في قطاع غزة، ضمن الخطة الوطنية لسلطة المياه الفلسطينية بقدرة إنتاجية 55 مليون متر مكعب، وتكلفة تقريبية بحوالي 580 مليون يورو، ولكن تحديات جمة تواجه إنشاء هذه المحطة، ومن ضمنها عدم التزام الدول المانحة بهذا التمويل، فضلًا عن الوضع السياسي غير المستقر وأزمة الطاقة التي تعصف بقطاع غزة منذ أكثر من عقدين، لغياب آفاق وخطط واضحة للحل مع الانقسام الفلسطيني الداخلي والحصار الإسرائيلي الظالم، وبذلك كان لا بد من حلول قصيرة المدى للتخفيف من أزمة ندرة المياه بإنشاء محطات التحلية الثلاثة المذكورة أعلاه.

وتعد كميات المياه المنتجة مقارنة بأعداد السكان قليلة، ما يعني أن قطاع غزة بحاجة لمزيد من محطات تحلية مياه البحر لتزويد السكان بالمياه الآمنة، ونظرًا لقلة كميات المياه المنتجة حاليًا تُخلط المياه المُحلّاة مع مياه الآبار الجوفية، لتصل إلى المواطن بملوحة قليلة قابلة للشرب والاستخدام المنزلي.

وللتغلب على أزمة المياه في قطاع غزة لا بد من اللجوء إلى تحلية مياه البحر، والسعي إلى إنشاء محطة مركزية لهذا الغرض، في حين يكمن الحل الآخر في اللجوء إلى تحلية مياه الخزان الجوفي المالح، وتوفيرها بواسطة محطات تحلية المياه العامة والخاصة.

يحتاج قطاع غزة لمصادر غير تقليدية للمياه كـإنشاء محطات تحلية مياه البحر، واستيراد المزيد من المياه من الخارج، وتجميع مياه الأمطار، وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالج، ومن أجل تحقيق ذلك يتوجب التركيز على الآتي:

  • الدعم الدولي: يمكن للمجتمع الدولي، دولًا ومؤسسات دولية، تقديم الدعم المالي والتقني لتحسين قدرات تحلية المياه في غزة، بالمساهمة في تمويل مشاريع تحلية المياه، وتوفير المعدات والتقنيات اللازمة.
  • توجيه الجهود نحو البحث والتطوير لتحسين تقنيات تحلية المياه، وجعلها أكثر فعالية وميسرة تكنولوجيًا، قد تساهم التقنيات المبتكرة في تقليل تكلفة المعالجة وزيادة كفاءة الإنتاج.
  • يجب تعزيز التوعية المجتمعية بأهمية المحافظة على المياه، وتشجيع استخدام المياه المستدام في القطاعين العام والخاص والمجتمع المحلي، يمكن أيضًا تشجيع استخدام مصادر بديلة للمياه مثل تجميع مياه المطر، وإعادة استخدام المياه المعالجة لأغراض أخرى غير الشرب.
  • وضع سياسات وإستراتيجيات حكومية لتعزيز تحلية المياه وتحسين إدارة الموارد المائية.

 

اشترك في القائمة البريدية