استراتيجيات التعافي من الوباء: العدالة الاجتماعية في صلب عمليات إعادة البناء بصورة أفضل

بقلم/ م.تيسير محيسن، مدير جمعية التنمية الزراعية "الاغاثة الزراعية" في غزة

تحتفي البشرية باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية في العشرين من نوفمبر من كل عام منذ 2007. يشتمل الاحتفاء على الجهود والفعاليات التي تبذل في سبيل معالجة قضايا الفقر والتهميش وانعدام المساواة والبطالة وحقوق الإنسان والحماية الاجتماعية.

وكانت منظمة العمل الدولية اعتمدت إعلانا بشأن العدالة الاجتماعية من أجل عولمة عادلة في يونيو 2008. بموجب هذا الإعلان شدد ممثلو الحكومات وأرباب العمل والمنظمات العمالية من 182 دولة على ضرورة تحقيق التقدم والعدالة الاجتماعية في سياق العولمة، من خلال برنامج العمل اللائق.

يكتسب هذا اليوم أهمية هذا العام ارتباطا بوباء كورونا وجهود التعافي منه وما نجم عنه من أزمات اقتصادية واجتماعية. وإذا كان يوم العدالة الاجتماعية أقر في ذروة صعود "العولمة" فإن الاحتفاء به هذا العام يأتي ونجم العولمة إلى أفول؛ والنظام الكوني يمر في عملية معقدة من إعادة الهيكلة والتنظيم.

من الناحية الفكرية والأخلاقية يمكن تناول موضوع العدالة من زاوية التوق الإنساني المشروع والأبدي والطوباوي أحياناً، لمجتمع إنساني أكثر عدلاً وانصافاً في مواجهة الظلم والاستغلال والتمييز بين البشر وبين الجماعات، في سياق الصراع على الخيرات العامة: الثروة والسلطة. ومن بين الاقتراحات الأكثر رواجاً، حتى يومنا هذا: العدالة الاجتماعية التي تقوم على إعادة توزيع الثروة، والديموقراطية التي تتأسس على تفويض السلطة. 

يتسم مفهوم العدالة الاجتماعي بعدم الوضوح كما لا يحظى باتفاق العلماء. تجرد المفهوم من طابعه الأخلاقي والديني، أو تعلمن على يد المفكر جون راولز في كتابه "العدالة كإنصاف: إعادة صياغة"، وحمل صفة "اجتماعي" ليعكس طبيعة العلاقة بين طبقات المجتمع من حيث مكانتها من الثروة/الخيرات العامة.

شهد تاريخ تطور المفهوم ثلاثة مراحل: ما قبل منتصف القرن 19 (غلبة الطابع الأخلاقي والديني)، هيمنة المنظور الاشتراكي حتى ما قبل نهاية القرن 20، والمرحلة الأخيرة المرتبطة بصعود الليبرالية الجديدة (العولمة، سقوط المعسكر الاشتراكي، التطور التقني، سقوط دولة الرفاه).

مع منتصف القرن 20، بات شعار العدالة الاجتماعية مركزياً في أيديولوجيات وبرامج الأحزاب اليسارية وأحزاب الوسط في عموم دول العالم، التي شهدت فجوة هائلة في توزيع الثروات والدخول والخيرات العامة أكثر من أي وقت مضى. اليوم تعكس هذه الفجوات مضافا إليها الفجوة الرقمية اتجاهاً عاماً، غير عادل أخلاقياً، غير حكيم سياسياً، وغير سليم اقتصادياً.

طوال نصف قرن تقريبا، ومن خلال النضالات الطبقية أو الوصول إلى السلطة (اشتراكية القرن 21 في أمريكا اللاتينية)، أو الحركات الاجتماعية (النسوية والطلابية والنقابية والبيئية) وفي ظل التطورات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية الهائلة، قدم اليسار بأطيافه بعض المفاهيم والاقتراحات في مضمار تحقيق العدالة الاجتماعية: تحرير قطاعات اجتماعية معينة من قوانين السوق، الدفاع عن مبدأ المساواة، بوصفه مبدأ سامياً، لا تنتجه السوق عفوياً بل يجب أن يتم فرضه على السوق، تنظيم الناس في مبادرات وإدارات ذاتية ديموقراطية أمام جشع الشركات الكبرى، أو تجاوزات الدولة، اعتبار الديمقراطية السياسية ضرورة من ضرورات العدالة الاجتماعية (ليست مجرد تعددية سياسية، بل ضمانات ممأسسة ومتفق عليها من قبل كل الفاعلين).

عزز وباء كورونا التوسع في استخدام الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الالكترونية، فيما يعرف بالرقمنة على صعيد الاقتصادات أو المجتمعات. في غضون ذلك، تكشف الأمر عن "فجوة رقمية" هائلة بين الأفراد والجماعات والدول، من حيث الوصول والحصول على هذه الوسائل وتحمل تكلفتها، مما أدى إلى تعميق أوجه التفاوت القائمة. كما إن الوباء جعل ملايين البشر يشعرون بغياب العدالة الاجتماعية في حياتهم اليومية وخاصة من الشباب والنساء والأقليات. لذا، يصبح تحقيق العدالة الاجتماعية أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، مع زيادة عدم المساواة والإقصاء، مما يشكل تهديدًا للتماسك الاجتماعي والنمو الاقتصادي والتقدم البشري.

علينا أن نجعل من الاحتفاء باليوم العالمي للعدالة هذا العام مناسبة تهدف إلى تعزيز الحوار بين الدول ومؤسسات الأمم المتحدة ذات الصلة وأصحاب المصلحة الآخرين ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص بشأن الإجراءات اللازمة للتغلب على الفجوة الرقمية، وإتاحة فرص العمل اللائق، وحماية العمل وحقوق الإنسان، وتبني استراتيجيات تعافي من الوباء ترتكز على مبدأ "البناء بصورة أفضل" تشتمل على ما يلي: الالتزام بالتعافي الأخضر للتخفيف من عواقب الأزمات المستقبلية على الوظائف والدخل، ضمان التماسك والتآزر بين السياسات، ولا سيما بين السياسات الاقتصادية وسياسات التوظيف والسياسات الاجتماعية، إيصال الدعم إلى من هم في أمس الحاجة إليه والتأكد من حصول الفئات الأكثر حرمانا وضعفا في سوق العمل على أكبر قدر من الاهتمام لتجنب أي زيادة أخرى في انعدام المساواة، تعزيز مؤسسات العمل (تحسين ظروف العمل، تحديث خدمات التوظيف، الحوار الاجتماعي)، تقوية أنظمة الحماية الاجتماعية بحيث تغطي جميع العمال وتضمن أنها تركز على الوقاية من المخاطر، تعزيز المساواة بين الجنسين في سوق العمل، وتحقيق فرص عمل أفضل للشباب، وأيضا تعزيز فرص التعلم مدى الحياة للجميع لتلائم احتياجات المهارات المتغيرة.

تعاني بلادنا من أزمات مركبة؛ فمن سياسات الاحتلال إلى سوء الأداء وتأثير الانقسام وتفشي الفساد، إلى نقص الموارد والتأثيرات السلبية لتفشي وباء كورونا. مواجهة هذه الأزمات والتخفيف من تداعياتها تتطلب تبني استراتيجية شاملة تجمع بين الوطني والمجتمعي، التنموي والديموقراطي، التحرري والبنائي، الصمود والمواجهة، في القلب منها ضمان تحقيق العدالة الاجتماعية؛ ونحن إذ نتطلع للانتخابات القادمة بوصفها رافعة للنضال الوطني وتعزيز القدرة على الصمود، ومقاربة للخروج من مأزق الانقسام، فإننا نراهن أيضا عليها لتحقيق المشاركة الواسعة وضمان تحقيق العدالة الاجتماعية وتخيف معاناة أكثر الفئات الاجتماعية تضررا ومعاناة.

 

 

اشترك في القائمة البريدية