منظمات المجتمع الدولي في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية

إعداد: م. تيسير محيسن

بعد بضعة أيام نودع عاما استثنائيا؛ أحداث وتحولات إقليمية ودولية سيكون لها أبعد الأثر على نمط الحياة فوق سطح الأرض ومستقبلها، النظام الدولي والعلاقات بين الدول والأمم، وأيضا على طبيعة المجتمعات المدنية وأدوارها المتجددة.

وقبل أن يتفشى فيروس "كورونا" كان العالم يعاني من أزمات مستعصية اقتصادية وسياسية وبيئية واجتماعية؛ جاء الفيروس اللعين يتجول بين ظهرانينا ليفاقم هذه الأزمات وليخلق أخرى وليكشف مدى هشاشة وعجز منظوماتنا ومؤسساتنا.

"كورونا أيضا فرصة" يقول البعض، فلربما تتعلم البشرية من محنتها وتتخلص من خطاياها وتعيد صياغة عالمها على نحو أكثر إنسانية وأكثر رشادا. فهل يكون "كورونا" قنطرة نحو المستقبل، زمنا فاصلا بين عالمين؟ وهل يدخل التاريخ عامنا هذا بوصفه بداية التحول؟ نعم إنها ليست نهاية التاريخ، وليست انتصارا لأيديولوجيا بعينها!

في بدايته، سلط الأمين العام للأمم المتحدة الضوء على جملة من التهديدات التي تواجه العالم في القرن 21: تصاعد التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، أزمة المناخ، انعدام الثقة في المؤسسات الدولية، سلبيات التكنولوجيا. كما حذر نعوم تشومسكي من أخطر لحظة في تاريخ البشر ارتباطا بالتهديد النووي المتزايد، ومخاطر الكوارث البيئية والتدهور الحاد في الديموقراطية (أو ما يطلق عليه فيروس الاستبداد).

لم يتسبب "كورونا" (التهديد البيولوجي) في معاناة بشرية كبيرة واضطراب اقتصادي هائل فحسب، وإنما أطلق أسئلة فلسفية وأخلاقية تمس الوجود البشري وجدواه. يمكن أن يحفز على العنف والتطرف نفسيا وثقافيا، يمكن أن يخمد التفاؤل الليبرالي الساذج حول فكرة التحسين البشري المستمر، يمكن أن يفاقم (مع تغير المناخ) انعدام المساواة وبالتالي يقوض التماسك الاجتماعي وينتهك الحقوق ويهدد السلام والأمن العالميين، نعم، لكنه بالتأكيد سوف يغير وجه العالم!

أولا: التحولات السياسية في العالم

لعل أبرز هذه التحولات السياسية في العالم استمرار موجة الشعبوية اليمينة والقومية (الهند على سبيل المثال، مقتل فلويد وتصرف إدارة ترامب وعنف الشرطة)، وأيضا ما كان من استجابات سياسية متباينة لوباء كورونا وانعكاساته على النظام الدولي، إقليميا موجة التهافت العربي على التطبيع مع إسرائيل في ظل استمرار الحروب الصغيرة والتدخلات الخارجية وتبدل صدوع التحالفات وأشكالها وغاياتها. بالطبع شكلت نتائج الانتخابات الأمريكية (نوفمبر 2020) وردود فعل ترامب عليها وما تنذر به من عواقب وخيمة، حدثا فارقا سيلقي بظلاله على كل شيء آخر في عالمنا اليوم.

مداخلتي سوف تتناول هذه التحولات وأثرها على بيئة عمل CSOs في العالم عموما وفي بلادنا على وجه الخصوص. ولعل الأثر الأول يرتبط بمدى ما تشكل هذه الأحداث من فرص أو تهديدات لدولة الاحتلال واستمرارها في انتهاك حقوق شعبنا بما في ذلك تغولها على منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الأهلية بشكل عام وكذلك حركة BDS. من شأن هذه التحولات كذلك أن تلقي بظلالها على التعاون الإنمائي ومصادر التمويل وشروطه والتنافس عليه، وأيضا إيقاع مزيد من الضرر على الفضاء المدني في العالم كله، وأخيرا التداعيات المحتملة للوباء وتدابير احتواءه من قبيل أزمة الدولار، انقطاع سلاسل التوريد، ردود أفعال الأنظمة الاستبدادية، واحتمالات تنامي الصراعات واندلاع الحروب وتفاقم الظواهر المناخية وتزايد نسب الفقر وأزمات الغذاء والمياه. ولكل ما ذكر أثر على بيئة عمل المجتمعات المدنية. والآن دعونا نتوقف قليلا عند بعض الملاحظات السياسية ارتباطا بكورونا:

تكاد تطمس الفوارق بين "الديموقراطيات" و"الديكتاتوريات" من حيث الاستجابة الناجعة للوباء والتغلب عليه، انسحاب المؤسسات الدولية من عمليات الاستجابة بالكامل تقريبا، باتت صوابية القرارات السياسية تقاس بمدى الأخذ بتوصيات الصحة العامة والاعتبارات الاقتصادية والقيود السياسية، وتعتمد شرعية الأنظمة على مدى والأجهزة السياسية المختلفة على مدى نجاحها في احتواء الفيروس.

بينما قررت منظمة الصحة، أن مصطلح "الفيروس الصيني" الذي أطلقه ترامب غير دقيق ويعتبر وصمة عار، يحتدم النقاش حول منشأ الفيروس ودلالاته السياسية والدينية وشاعت "نظرية المؤامرة" وظلت العلاقة بين تدابير الاحتواء وضرورات الانفتاح الشغل الشاغل للنخب وللناس العاديين على حد سواء.

الوباء كان متوقعا، ولكن معظم دول العالم لم تكن مستعدة لمواجهة تهديد بهذا الحجم ونطاق الانتشار وسرعته، يكمن السبب في انشغال السياسيين والقادة بأنفسهم فبخلوا بالوقت وبالمال وحسن التصرف، وبدلا من ذلك ركزوا على الانتخابات أو إعادة إنتاج سيطرتهم وتأبيد سلطتهم! حتى أن البعض حاول أن يستغل الكارثة ذاتها مبررا لمزيد من الهيمنة والتسلط.

الاحتجاجات الجماهيرية:

حتى قبل الوباء، اندلعت موجات كبيرة ومتتالية وفي أكثر من مكان في العالم من الاحتجاجات الجماهيرية، ظهرت واستمر بعضها خلال 2020. ولعل الرسالة الرئيسة لها "أن التوق العالمي للمساواة والعدالة والتحرر من القمع لا يمكن إخماده أبدا". كما بينت الاحتجاجات مدى الحاجة إلى التضامن العالمي؛ فالحركات المحلية تواجه هياكل سلطوية مستبدة وقوية، مدعومة من أنظمة استبدادية أجنبية، ولذا فهي في حاجة إلى المساعدة والدعم.

يمكن القول إن الوباء قد وفر فرصة مرحب بها لوقف الاحتجاجات الجماهيرية. لكن تبين أن التوقف كان مؤقتا.  فقد عادت الاحتجاجات الجماهيرية" بمعدل وحجم ملحوظين في العديد من الأماكن (إسرائيل، أمريكا، لبنان، العراق)

نهاية امبراطورية:

كانت نتائج الانتخابات الأمريكية (نوفمبر 2020) متوقعة إلى حد كبير، ورغم الانقسام العمودي في المجتمع الأمريكي إلا أن "تاجر العقارات" ساكن البيت الأبيض منذ 4 سنوات مني بهزيمة مرة وإن لم يعترف بها، هي حصاده المر على ما ارتكبت من أخطاء وخطايا داخل الولايات المتحدة وخارجها.

فقد نجح ترامب في زيادة خطر كل من التهديدات الثلاثة المذكورة آنفا بالانسحاب من اتفاقية باريس ومن اتفاقيات الحد من التسلح، وبتعظيم الممارسات المنتهكة للبيئة وللديموقراطية.

فشل في إدارة أزمة كورونا على نحو معيب، كرس الاستقطاب السياسي وأظهر الوجه البشع للعنصرية، تفاقمت في عهده الأزمة الاقتصادية (البطالة تحديدا)، وتر العلاقة مع الصين وشن حربا تجارية ضدها، دعم القادة المستبدين والشعبويين في كل مكان.

وما كان لتاجر عقارات، معتل اجتماعيا، ومهرج أن ينجح في إجادة التعامل مع الأزمات؛ فهو الديماغوجي الذي وصل إلى الحكم محملا على الكراهية العرقية والطائفية، ففاقم، شأنه في ذلك شأن الوباء، من انقسام أمريكا وتعميق جرحها. في عهده تبدت أبشع الظواهر: عنصرية ممأسسة، نذر حرب أهلية، تضاؤل السلطة الأخلاقية لأعتى قوة في التاريخ، كورنا جعل كل شيء أمريكي موضع شك وربما ازدراء في نظر العالم.

مع ترامب، وربما بسببه يرى البعض أن الولايات المتحدة وصلت إلى نقطة تحول محتملة نحو الانحدار المطلق. فماذا يستطيع جو بايدن، الفائز الديموقراطي بالانتخابات أن يفعل؟ أولا يتوقع كثيرون أن ترامب لن يسلم بسهولة بخسارته، وأنه سوف يدفع نحو أشهر طويلة من التقاضي والفراغ السياسي وربما الحرب الأهلية. وبالتالي سوف تشكل تداعيات الانتخابات تهديدا مميتا للديموقراطية الأمريكية (الشعبوية وتآكل ثقة الجمهور في العملية الديمقراطية، انقسام الأمة).

وهناك من يرى أن لدى بايدن فرصة وعليه مسؤولية قيادة عملية التجديد الديموقراطي وإصلاح ما أفسدته سنوات ترامب الأربع: الاهتمام بالمخاوف العملية للطبقة الوسطى وللشعوبيين، استعادة الثقة في حيوية المؤسسات الديمقراطية، ترميم قيادة أمريكية مشاركة ومتعددة الأطراف للعالم ومواجهة تحدياته.

بالنسبة لمنطقتنا، من المرجح أن يؤدي انتصار جو بايدن إلى ثلاث تحولات كبيرة: إعادة تركيز سياسة الولايات المتحدة على الملف الإيراني، الدفع باتجاه احترام القيم المعيارية (حقوق الإنسان)، خفض مستوى المشاركة الأمريكية (مواصلة سياسة سابقيه الانسحابية). ولن يكون في جعبته خير كثير للفلسطينيين!

الحزام والطريق:

بعيدا عن الأضواء، وبكثير من الغموض، أدخل الرئيس الصيني تغييرات أساسية حولت السياسات الاقتصادية والسياسية والخارجية التي حكمت الصين لعقود في اتجاه جديد مذهل: مشروع الحزام والطريق (الصين بوصفها قوة عظمى) الخاص ببناء البنية التحتية لربط الصين بالعالم بدلا من طريق الحرير.

بينما زاد من سطوته السياسية، أوقف الرئيس الصيني تحرير الأسواق، عزز برامج الدولة المصممة لحماية ورعاية الشركات الصينية التي يمكنها إخراج المنافسين الغربيين من الصناعات المتطورة

في الخارج بالرغم من صعود الصين الاقتصادي، لم يلق نموذجها القيمي والثقافي رواجا كبيرا: تواصل دعم الأنظمة الاستبدادية، تفرض الرقابة على الصحفيين والأكاديميين والشركات الأجنبية في كل ما يتعلق بالشأن الصيني. طبقا لتقارير دولية، تستمر الصين في اضطهاد الأقلية الدينية "الإيغور" وثمة شبهات تطهير عرقي.

بينما يكافح العالم للسيطرة على الوباء، تمكنت الصين من السيطرة عليه بسرعة وفعالية. كيف كان ذلك ممكنا؟ في 22 سبتمبر، ألقى الرئيس الصيني شي جين بينغ كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أشار فيها إلى 3 قضايا: اتباع إرشادات العلم، إطلاق استجابة دولية مشتركة للتغلب على هذا الوباء، رفض أي محاولة لتسييس الوباء. يُعتقد أن هذه القضايا تقبع خلف قصة النجاح الصيني في التغلب على الوباء علاوة على امتلاك نظام مركزي للاستجابة الوبائية السريعة، سن مجموعة من الإجراءات والتدابير الصارمة، وبصفتها أكبر مصنع في العالم لمعدات الحماية الشخصية، كان من السهل نسبيًا زيادة إنتاج العباءات الطبية والأقنعة، تطوير البنية التحتية الطبية بسرعة، إلى جانب أن الالتزام بالصالح العام متأصل في الثقافة الصينية.

هل تنهض أوروبا من جديد؟

قبل وباء كورونا عانت أوروبا من صعود الشعبوية (تراجع القيم الديموقراطية) وأزمة اليورو وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والهجرة وأيضا توتر شراكتها مع إدارة ترامب وكذلك وقوعها بين المطرقة الصينية والسندان الأمريكي (العملاقين الاقتصاديين في التكنولوجيا والتجارة والأمن). كورونا فاقم مشاكل القارة العجوز وكشف عن فجوات بنيوية في مختلف المنظومات الاقتصادية والسياسية والأخلاقية. سرعان ما التقط الاتحاد أنفاسه ووضع خطة تعافي طموحة ورصد حزمة تعافي بقيمة 1.8 تريليون يورو. اشترط على الحكومات التي تتلقى الأموال تنفيذ استراتيجيات قوية للتصدي لتغير المناخ وتقليص الفجوة الرقمية وتعزيز النظم الصحية إلزاميا. التحدي ما بعد كورونا إما أن تتوحد أوروبا من جديد لتنافس، وإما أن تجد طريقا وسطا بين الولايات المتحدة والصين، لتلعب دور الوسيط القوي، أو حتى تصبح جسرا.

منطقة الشرق الأوسط:

  • استمرار الصراع والعنف في ليبيا واليمن وسوريا ما ساهم في خلق أزمة إنسانية وأزمة لجوء وبروز جماعات إرهابية. وباتت مسرحا لصراع الارادات الإقليمية والدولية. انخراط القوى الاستبدادية في حروب مدمرة بالوكالة (لصالح قوى خارجية) على السيطرة والنفوذ (الغاز والنفط والمياه والممرات والأسواق)
  • استمرار الاحتجاجات الجماهيرية ضد الفساد والاستبداد والتدخلات الخارجية ومن أجل العدالة الاجتماعية ورحيل الأنظمة في الجزائر والسودان والعراق ولبنان، ليحدث ما يشبه الانقلاب عليها أو اختطاف نتائجها بسبب التدخلات الخارجية، وتدخل الجيش والدولة العميقة.
  • الانتخابات نادرة أو مزورة أو مؤجلة إلى أجل غير مسمى، فرض حالة الطوارئ بحجة محاربة الإرهاب والآن وفر وباء كورونا ذريعة إضافية لتمديد حالة الطوارئ وتوسيعها والقيام بمجموعة كبيرة من الانتهاكات وتقليص الفضاء المدني والانقضاض على مكتسبات الثورات أو الاحتجاجات الجماهيرية
  • تبدل خطوط الصدع والتحالفات: من الظواهر التي تشهدها المنطقة في أعقاب تعثر مسيرة التحول الديموقراطي ما بات يعرف بالهرولة العربية نحو إسرائيل والتطبيع معها أو جهود بناء حلف عربي-إسرائيلي في مواجهة إيران. إن كل خطوة في هذا الاتجاه يقابلها سحب من رصيد "المسألة الفلسطينية" تقدمة لصالح حكومة نتنياهو. ما كان لهذا أن يحدث لولا فراغ القوة الناشئ في المنطقة بعد خروج مصر وانهيار العراق وسوريا وضعف الجزائر وانشغالها ودخول ثلاث قوى على الخط (إيران، تركيا، إسرائيل) لملئ هذا الفراغ؛ المرتبط بالنهاية المحزنة للمد القومي العربي الناجم عن هزيمة الناصرية، وصعود الإسلام السياسي، وتسيد أنظمة فاسدة ومستبدة.
  • في محاولة منه للخروج من مأزقه المركب: اقتصاد متعثر (تأثر الليرة بسمعة البلاد ومناخ الاستثمار)، انشقاقات حزب العدالة والتنمية، فشل انتخابي، توتر العلاقة مع دول عديدة، يواصل أردوغان العبث في الشأن الداخلي لبعض الدول العربية في تحالف ظاهر مع قطر وجماعة الإخوان كان آخرها التدخل في الشأن الليبي وتوتير شرق المتوسط، واتباع سياسة التأرجح في العلاقة مع روسيا من ناحية والولايات المتحدة وأوروبا من ناحية ثانية، وأخيرا تشديد القبضة الأمنية والقمع. مع انتخاب بايدن لدى تركيا تخوفان: (أ) الخوف من إدخال الديمقراطية وخطاب حقوق الإنسان في العلاقات الثنائية. (ب) الخوف من محاولة تقييد تركيا الصاعدة، ودعم سياسات احتواءها في الإقليم. (ولذلك يستخدم ورقة روسيا للضغط).
  • بعد سنوات من التأزيم وحملة "الضغط الأقصى" الذي اتبعته إدارة ترامب، بتحريض إسرائيلي واضح (اغتيال سليماني وقصف المواقع الإيرانية في سوريا وأعمال التخريب والاختراق والاغتيال وفرض عقوبات اقتصادية والتهديد بالحرب)، يلوح في الأفق أمل بعد فوز جو بايدن.  صر بايدن قائلا "إذا عادت إيران إلى الامتثال لالتزاماتها النووية، فسأعاود الانضمام إلى خطة العمل الشاملة المشتركة كنقطة انطلاق للعمل جنبًا إلى جنب مع حلفائنا في أوروبا والقوى العالمية الأخرى لتمديد القيود النووية للاتفاق". من المرجح أن يعارض الحزب الجمهوري، إلى جانب حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط هذه السياسة. إيران تطالب برفع العقوبات والتعويض الاقتصادي، ولديها الآن معرفة نووية متزايدة. الملف الإيراني يعود ليشكل مساحة مشتركة للتعاون مع أوروبا (ستحاول رسم مسار دبلوماسي بين واشنطن وطهران)، الضغط على طهران لتجنب التصعيد المستمر مع إدارة ترامب المنتهية ولايتها

ثالثا: في الاقتصاد السياسي للوباء

ظواهر قبل كورونا تتعلق بالليبرالية الجديدة والعولمة:

  • ركود اقتصادي أدى إلى انخفاض الإيرادات العامة ومن ثم فقر الخدمات الأساسية وبالتالي اندلاع الاحتجاجات التي تحمل شيئا فشيئا مضمونا سياسيا (الانتخابات الأمريكية، المظاهرات ضد نتنياهو)
  • تآكل الثقة الناس في النظام الدولي متعدد الأطراف ومؤسساته لأنه فشل في تحقيق نمو شامل ومستدام في العقود الأخيرة. تتطلب استعادة الثقة الاعتراف بظهور نظام اقتصادي دولي جديد وبناء قيادة سياسية جماعية عالمية جديدة وخاضعة للمساءلة. تعزيز التعاون الدولي الإنمائي والإنساني (التمويل، التكنولوجيا، المعرفة) عالي الجودة أساسي للتعامل مع التحديات العالمية الحالية والناشئة.
  • أدت الحرب التجارية بين الصين وأمريكا إلى تعطيل سلاسل التوريد، وزيادة تكاليف التجارة العالمية، وزادت حالة عدم اليقين للشركات والمستثمرين. تلوح نهاية حقبة "العولمة" مع انقسام العالم بين الصين وأمريكا واستقطابه (تجاريا واقتصاديا وثقافيا)، ولا سيما انفصال قطاع التكنولوجيا وبالتالي تعطيل التدفقات الثنائية للتكنولوجيا والمواهب والاستثمار.
  • تواجه الشركات متعددة الجنسيات قضايا حرجة مثل تغير المناخ، والحد من الفقر، كما واجهت ضغوطا جديدة من الشعبوية، وتحديات أمنية مرتبطة بالتقنيات الجديدة

كشف صعود الشعبوية ومن قبلها الأزمة العالمية 2008/2009، وأزمة اليورو والآن تفشي فيروس "كورونا" عن إخفاقين: الدولة والسوق! (تهافت الليبرالية الجديدة)

إخفاقات السوق:

تعتبر الليبرالية الجديدة أن السوق هو الآلية الأكثر كفاءة لتوفير السلع والخدمات. ثبت فشل السوق عندما انعدمت شروط المنافسة الحرة والكاملة بسبب الاحتكارات، وعدم تناسق المعلومات وضعف خصخصة السلع الجماعية.

يمكن أن تؤدي هذه المواقف إلى معاملات غير متوازنة، أو استبعاد الفئات الأكثر ضعفا من المعاملات الاقتصادية أو عدم الاهتمام الكافي بالمصالح الجماعية، وعدم الاهتمام الكافي بمصالح الأجيال القادمة.

من بين الحلول تدخلات السياسة الحكومية، مثل الضرائب، والإعانات، وضوابط الأجور والأسعار، واللوائح، لكنها أيضا قد تؤدي إلى تخصيص غير فعال للموارد، ويطلق عليه أحيانا إخفاق الدول (فشل الحكومة).

إخفاقات الدولة:

تنتج الدولة السلع والخدمات من خلال المؤسسات والإدارات العامة لسببين: (أ) إما لتصحيح إخفاقات السوق (السلع الجماعية). (ب) وإما تعبيرا عن اختيار جماعي/أيديولوجي. ومع ذلك، في ظروف معينة، "تفشل" الحكومة في الاضطلاع بهذا الدور الإنتاجي بسبب: عدم الكفاءة البيروقراطية، قيود الميزانية، نقص التنسيق عبر مختلف السياسات القطاعية، مصالح الناخبين وانحيازات السياسيين والأحزاب.

كما سلطت الأزمة وتداعياتها الضوء على أبرز وأهم التدخلات المطلوبة للتغلب والاحتواء والتعافي الاقتصادي والاجتماعي:

  • إعادة التوازن بين أهداف الكفاءة والمرونة في المنظومات الاقتصادية والاجتماعية. تعزيز الانتقال نحو مجتمعات أكثر مرونة (التضامن والتعاون). وتركيز الاهتمام بأولئك الذين يعملون في الخطوط الأمامية (أعمال الرعاية، التعليم، النقل العام وخدمات التوصيل...)
  • استراتيجيات تعافي اقتصادي: تستثمر في العمال والتكنولوجيا والاستدامة، تعافي ذكي وأخضر (إعادة البناء بصورة أفضل) الالتزام الحكومي بالجوانب البيئية للتعافي الاجتماعي والاقتصادي أثناء تنفيذ خطط التعافي الضخمة لتحقيق نتائج سريعة (الصفقة الخضراء). وكذلك ضمان ألا يدفع البحث عن المكاسب السريعة إلى إهمال وتجاوز الأولويات الأساسية للتنمية المستدامة وتغير المناخ
  • تبني نهج الاقتصاد الاجتماعي: باعتباره شريكا للقطاع العام في إنتاج السلع الجماعية، ويعظم قوة المنتجين الصغار للوصول إلى الأسواق (التعاونيات). لدى منظمات الاقتصاد الاجتماعي مقاربات مبتكرة ومتنوعة تعالج المطالب غير المتجانسة، بتكاليف أقل، وقدرة على تعبئة موارد إضافية (المبيعات، التبرعات، والتطوع، والرعاية، وما إلى ذلك)، تستفيد من الفرص التي تتيحها الرقمنة (منصات حشد الموارد والأفكار والمعلومات)

ثالثا: المجتمع المدني وجدل الاستجابة والتحدي

عانت منظمات المجتمع المدني ما قبل تفشي الوباء من تقليص الفضاء العام، ومن تراجع مصادر التمويل وزيادة حدة التنفس على مصادره، وزيادة الطلب على خدماتها في ظل الكوارث وحالات الطوارئ الطبيعة وتلك المرتبطة بالنزاعات وأيضا عانت من تفشي بعض أنواع الفساد وضعف الديموقراطية وتحول بعضها أسيرا لنسق المعونة الخارجية (مقاول من الباطن أو مجرد مزود خدمات) أو نسق السلطة المحلية (الكسل والجبن)، كورونا فاقم هذه المشكلات وأضاف عليها خاصة ما يتعلق بتداعيات تدابير الاحتواء (التباعد الاجتماعي، قيود الحركة، إعلان حالات الطوارئ) وكذلك تطرح التحولات المذكورة آنفا فرصا وتهديدات أمام CSOs.

المجتمع المدني في الميدان:

كشفت التجربة خلال عام 2020 أن مساهمة المجتمع المدني في مواجهة الوباء تراوحت بين الاستجابة السريعة وتبني استراتيجيات التعافي التي تعزز من مرونة الاقتصاد والمجتمع. تضمنت المساهمات طيف واسع بدءا من التثقيف المجتمعي ورصد الانتهاكات والقيام بأعمال الرعاية والحماية الاجتماعية وتلبية الحاجات الطارئة للفئات الأكثر تضررا، وانتهاء بمكافحة الفساد ومساءلة الحكومة وإنشاء صناديق طوارئ وطنية. ما ساعد على الاضطلاع بهذه الأنشطة والمهام الميزات التي يتحلى بها من واقع تجربته العملية من قبيل القدرة على تحريك الابتكار والمشاركة من الأسفل، الوصول السريع للفئات المتضررة، الشفافية.

التحولات السياسية وأزمة كورونا شكلت فرصة للمجتمع المدني: استعادة الشرعية بعد سنوات من التشكيك والملاحقة، بناء تحالفات جديدة مع كيانات تنظيمية مختلفة، تحفيز الابداع والبحث عن البدائل، منصات جديدة للمراقبة والمشاركة وتبادل المعلومات بما في ذلك "المشاركة المدنية الرقمية"، تطوير مقاربات جديدة مثل الرابطة الثلاثية، استعادة التضامن على المستويات المحلية والعالمية

وأيضا خلقت هذه التحولات العديد من المشكلات والتحديات: التهديد الناجم عن فجوة القوة واختلالها لصالح الأجهزة والسلطات التنفيذية، المحافظة على التباعد الاجتماعي وفي نفس الوقت تعزيز التكافل والتقارب والعمل المشترك، الفجوة الرقمية، صعوبة الوصول إلى الموارد المالية المستدامة وضمانها، وانعكاس الأزمة الاقتصادية على قدرة المانحين وبالتالي الحاجة لإعادة التفكير في نموذج عمل المنظمات لتنويع مصادر دخلها، ويبقى تقليص الفضاء المدني التحدي الأبرز:

يرى البعض أن كورونا وفر الذريعة للمضي قدما في ظاهرة بدأت منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي (11 سبتمبر) وهي تقليص الفضاء المدني (تقييد حريات التجمع السلمي وتكوين الجمعيات وحرية التعبير)، وذلك عبر فرض القيود الصارمةعلى الحريات المدنية الأساسية كوسيلة لاحتواء الجائحة واستغلالها سياسيا. يجدر ملاحظة التالي: تسببت الإجراءات والانتهاكات في موجة احتجاجات واسعة، بالرغم من تشديد النشطاء والخبراء على أن القيود الحكومية يجب أن تتماشى مع معايير حقوق الإنسان المعترف بها (أي يجب أن تكون دقيقة وشفافة ومتناسبة ومحدودة المدة، وتخضع للإشراف التشريعي والقضائي) إلا أن حوالي نصف دول العالم شهدت بعض الانتهاكات لهذه المعايير، ومع ذلك أثبتت بعض الحكومات أنه من الممكن حماية الحقوق أثناء مكافحة الفيروس بشكل فعال!

في الختام،

يبدو أن الدول التي حققت أفضل أداء في الاستجابة للوباء، والحد من انتشاره وتقليل آثاره، هي تلك التي أدركت الحاجة إلى موازنة تدابير الطوارئ مع احترام الحقوق، وأظهرت التضامن، واسترشدت بالنصائح العلمية، وقدمت معلومات واضحة ودقيقة، وفضاء مدني محترم ومعترف به للمجتمع المدني كشركاء.

مثلما كانت الميادين ساحة الفعل في الربيع العربي، مثلت شرفات المنازل منصات للتجمع والهتاف تعبيرا عن التضامن والتقدير للعاملين في الخطوط الأمامية! وكذلك الفضاء التخيلي شكل ساحة للتفكير وتبادل المشاعر والتعبئة وتوجيه النقد! كما بينت الاحتجاجات الجماهيرية حاجة الإنسان المستمرة للعمل الجماعي والتضامن الاجتماعي. لم يُظهر الناس فقط أن الاحتجاج ما زال ممكنا: لقد أثبتوا أنه ضروري.

اشترك في القائمة البريدية